خرجت من جديد المجلة الأسبوعية الفرنسية الساخرة المثيرة للجدل "شارلي إيبدو"، المعروفة بسبب مواقف هيئة تحرير المجلة بخطها الاستفزازي والمعادي للعرب والمسملين، حيث ارتبط اسم هذه المجلة، التي انطلقت من تيار اليسار، في منتصف ستينيات القرن الماضي، بالأحداث الاجتماعية التي هزّت فرنسا، في مايو/أيار عام 1968، بعد إضرابات طلابية وعمالية ضد سياسات الرئيس شارل ديغول، ومن اسم الرئيس الفرنسي شارل ديغول، استلهمت المجلة اسم شارلي، وكان تحدياً لشارل ديغول، وللتيار اليميني المحافظ في فرنسا المحافظة.
من الصراع الأيديولوجي إلى الإفلاس المالي
كانت معركة أيديولوجية وصراعاً فكرياً بين اليمين المحافظ واليسار التقدمي بمختلف أجنحته وتياراته الفكرية، كان خط تحرير المجلة مناهضاً لأفكار اليمين المتطرف العنصرية واليمين الرجعي. بعدها عرفت هذه المجلة النخبوية اليسارية، التي كان لا يعرفها إلا الطالب الناشط اليساري في جامعته، والمناضل النقابي في مصنعه، وما بقي من أفراد الحركة الطلابية التي قادت إضرابات مايو عام 1968.
بعد غياب إشهاري وترويجي دام أكثر من ثلاثة عقود، في وسط إعلامي أمسى لا يبالي بالسخرية الاستفزازية التي تنشرها المجلة ضد قادة حزبي اليمين "المعتدل" واليمين المتطرف. عندها خرجت هذه المجلة من الرماد كطير الفينيق، وصارت مجلة ساخرة عابرة للقارات، بعد نشرها الرسوم التي نشرتها في البداية صحيفة يلاندس بوستن الدنماركية، في عام 2005، ثم شارلي إيبدو في عام 2006، والتي تُظهر النبي محمد صلى الله عليه وسلم يعتمر قنبلة بدلاً من العمامة، أو كشخصية مسلحة بسكين محاطة بامرأتين منتقبتين.
تعرّضت المجلة الأسبوعية الساخرة للتهديد عدة مرات بعد ذلك، حيث أضرمت النار في مقر هيئة تحريرها، إلى أن تم الهجوم على مقرها، في يناير 2015، وتم خلاله قتل عدد من أفراد المجلة الساخرة، ما تسبب في صدمة "دولية" وتظاهرات ضخمة في فرنسا، شارك فيها العشرات من قادة دول العالم، من بينهم الوزير الأول بالجمهورية التركية أحمد داود أوغلو، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومن ضمن القتلى الرسام الشهير كابو.
حينئذ، استطاعت مجلة شارلي الساخرة أن تكسب تعاطفاً كبيراً في الأوساط الإعلامية الفرنسية، وحتى لدى بعض الصحف والمجلات العربية. كانت قدّمت يومية Libération المحسوبة على تيار اليسار بفرنسا مقرها لفريق هيئة تحرير المجلة، بعد هجوم يناير 2015. هذه الأخيرة أصبحت دائماً بحالة كبيرة من الاستفزاز للعرب والمسلمين، كون نسبة تقوق 95% من العرب والمسلمين كانوا لا يسمعون إطلاقاً بهذه المجلة، وما هي، ومَن يُصدرها؟ باستثناء فئة قليلة من الطلاب… حيث أصبحت اليوم أول مجلة معروفة بفرنسا (ربما بعد يومية لوموند العريقة) لدى العرب والمسلمين، بسبب نشر عناوينها الاستفزازية والمقززة التي تخطت حدود فرنسا.
سلوك الاستفزاز والانحراف
وهكذا تمضي المجلة الساخرة في سخريتها، وحتى في لحظة المأساة والمعاناة نشرت مجلة شارلي إيبدو كعادتها كاريكاتيراً تجاوز منطق التعاطف مع آلام ملايين الضحايا والمنكوبين، من جرّاء زلزال عنيف هزّ الأرض، ومشاعر كل إنسان لديه ذرة من الإنسانية، باختلاف دينه ولغته ولون بشرته. إن الكاريكاتير الذي نشرته مجلة "شارلي" يوم الثلاثاء الماضي "تجاوز حدود الإنسانية"، بحسب ما عبّر عنه مواطنون وسياسيون وإعلاميون أتراك وعرب بتركيا وخارجها.
ها هي تخرج مجلة شارلي إيبدو، والتي تعّد صوت الحرية و"الإبداع" وتتحدى مشاعر المسلمين بعنوان كاريكاتيري: "لا داعي لإرسال دبابات". في حين لا تزال مئات آلاف العائلات تبحث عن أهلها والأرض تزلزل تحت أقدام رجال الإسعاف. هذه المرة لم تنشر المجلة على الصفحة الأولى صورة كاريكاتيرية لرجل شرقي يرتدي عمامة، بل اختارت عنوان حرب، لا يعرف منها أصحاب هذه المجلة إلا السخرية والثراء الفاحش من نتائج الحرب.
من وجهة نظر العلاقات العامة والتسويق والترويج، خرجت المجلة من أزمتها المالية والتي كانت على شفى الانهيار المالي والانقراض الإعلامي، فبعد نشرها للرسوم الكاريكاتيرية للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في عام 2006، أصبح لهذه المجلة الساخرة اسم وسمعة ومكانة، أي ماركا label، بعبارة أخرى أصبح حبر رساميها يجري كمياه نهر السين الهادئة في ضمير أصحاب الفكر الليبرالي المتطرف وحرية التعبير والصحافة، ومن بينهم الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي دافع بكل ثقله عن خط تحرير المجلة بصوت عالٍ، بعد قتل المعلم سامويل باتي، في أكتوبر عام 2020. حيث قررت هيئة تحرير المجلة إعادة نشر رسوم العار للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
أصبحت هذه المجلة أداة من أدوات سلاح الدمار الشامل الفكري والثقافي في معركة صراع الحضارات التي تشنها نخب وإعلام اليمين المتطرف ضد العرب والمسلمين، في فرنسا خصوصاً وفي الغرب عموماً، كيف لمجلة كان مديرها السابق يدافع عن المهاجرين العرب والمسلمين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وضد الإعلام الانتقائي والاستقصائي اليميني، أن يتحوّل من يساري ديستوبي (dystopian) إلى مرجع ثقافي بورجوازي لزعماء أحزاب اليمين واليمين المتطرف في فرنسا.
لمدّة خمسة عقود ومجلة شارلي تتنافس مع مجلة أخرى ساخرة، لكهنا أكثر مهنية ودقة في نشر أخبارها وتناولها لملفات دسمة تمس السياسة والاقتصاد، مجلة البطة المقيّدة Le Canard Enchaîné، من أقدم الصحف في فرنسا، والتي تتميز أيضاً بالتحقيق، وكذلك تنشر العديد من الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة، لكنها باحترافية وتدقيق، تعد هذه المجلة الأسبوعية كابوساً لكل من سوّلت له نسفه أن يتعدى حدوده المهنية والمسؤلولية المنوطة به أو بها من سياسيين وإعلاميين وحتى مشاهير الفن والرياضة، يعني Mediapart بدون شوارب.
لذا، يتساءل المرء عن سبب تعنّت وإصرار هيئة تحرير شارلي إيبدو لمثل هذا الأسلوب الصحفي المزعوم في هذا الوقت بالذات، هناك حوالي ستة ملايين مسلم يعيشون في فرنسا، أضف إلى ذلك تعيش فرنسا منذ عقد من الزمن احتقاناً سياسياً وأزمة اقتصادية خانقة، بل حتى أزمة هوية كما يزعم أسياد مجلة شارلي إيبدو، وما تروّج له هيئة تحرير شارلي، الغريب مع فريق هيئة تحرير المجلة أنهم في حالة نكران، أي أنهم حتى الساعة لم يعرفوا أن مجلتهم "اليسارية" أصبحت أداة في يد نخب اليمين واليمين المتطرف، ومُختبر تجارب أفكارهم الداعية لصدام الحضارات، ليس حسب تنبؤات البروفيسور الأمريكي سامويل هانتنتون، بل حسب تنبؤ ميشال هويلييك.
جميع الطرق الآن تؤدي إلى الدراما
بات الأمر واضحاً أن مجلة شارلي إيبدو اختارت عدوّها اسمه عبدو، والذي أصبح سلعة انتخابية تحركها وسائل الإعلام في فرنسا، خدمة لخطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين لصالح اليمن المتطرف الذي أضحى فيه المسلم كبش فداء. قد رفعت منظمة تدافع عن حقوق المسلمين في فرنسا دعوى قضائية ضد مجلة شارلي إيبدو في مدن عديدة، منها ليون وستراسبورغ وبوردو بتهمة "التجديف". وتم رفع دعاوى أخرى بتهمة التحريض على العنف العرقي. لا يعتبر "التجديف" جناية في فرنسا سوى في منطقة الألزاس وموزيل شرقي فرنسا على الحدود مع ألمانيا، وتنص المادة 166 من قانون العقوبات في منطقة الألزاس وموزيل، على عقوبة تصل إلى السجن ثلاث سنوات لمن يثبت قيامه بـ"التجديف". هذا يدل على أن المسلمين يعرفون كيف يحاربون بلطف وليسوا بحاجة لدبابات، هم يلجأون للقانون في إطار قوانين الجمهورية، والتي تحمي لهم حقوقهم المدنية والسياسية، عندما تُهان كرامتهم باسم "حرية التعبير".
قد أفسدت مجلة شارلي إيبدو تلك العلاقة الحميمة بينها وبين المسلمين الذين يعشقون ويحبون الفكاهة السياسية والهجاء المحترم مثلي أنا. كنت أقرأ تشارلي إيبدو وأنا شاب في الجامعة، أحببت واحداً من كُتابها ومحرريها المساهمين، باتريك فونت، في الحصة الساخرة على إذاعة France Inter في بداية تسعينيات القرن الماضي في فرقة Laurent Ruqiuer Rien à Cirer، وشاهدت Les Guignols de l'Info، استمعت إلى Laurent Gerra وNicolas Canteloup، وما زلت أقرأ Le Canard (كل هذه العروض الساخرة المضحكة كانت تبسط لنا الوضع السياسي والاجتماعي، وترفيهاً عن متاعبنا اليومية).
لكن عندما تحوّلت الفكاهة السياسية إلى شتم عقديتي والسخرية من ثقافتي قررت أن أقاطع شارلي، بل أنا لست شارلياً، ولم أكن أبداً شارلياً، كما فعلها البعض وقال: "اليوم أنا شارلي" بعد الهجوم على مقر المجلة وقتل أربعة من رسامي المجلة، في يناير 2015.
فإن مسألة حرية التعبير، والتي هي مسألة مقدسة ليس في فرنسا فقط، بل في جميع أنحاء المعمورة وعند البشرية جمعاء، ومن المفارقات أن قادة اليمين واليمين المتطرف وبعض اليساريين لا يزالون يذرفون دموع التماسيح على هذه المجلة، التي أصبحت صوت اليمين المتطرف، هدفها ضرب الإسلام واحتقار العرب والمسملين، بل تجاوزت هيئة تحرير المجلة حدودها إلى السخرية والشتم لقادة عرب ومسلمين، على غرار الرئيس رجب طيب أردوغان، والمرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي، ورموز نظام الملالي بإيران.
الخلاصة: لا يزال الأتراك يواصلون عمليات البحث عن مفقودين ومصابين تحت الأنقاض، ودفن الأموات، والتيسير على المنكوبين، إنها كارثة طبيعية لم تعرفها قط منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا MENA في تاريخها الحديث. كيف لهيئة تحرير مجلة شارلي "الإنسانية" أن تجد الوقت وتسخر من زلزال تركيا؟ هل وصل الأمر بهؤلاء، مقدّسي الحياة وأصحاب القيم الإنسانية الكونية، أن المسلم ليس له الحق في العيش. هذه ليست حرية التعبير والمعتقد، بل جهل وغطرسة واستعلاء وعداء وعنصرية وكراهية ضد الإسلام. فاليوم هيئة تحرير مجلة شارلي إيبدو ما هي إلا فريق من Les Charlots، بعيد كل البعد عن فن السخرية والفكاهة.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.