نمت الساعة الثالثة والنصف صباحاً بعد أن تناولت مسكن آلام قوياً، وأظنني غرقت في النوم كثيراً، لدرجة أنني عندما شعرت بالسرير يهتز، أقنعت نفسي أنها هزة بسيطة كالعادة ستستمر ثواني وتنقضي، لكنها لم تنقضِ، وبدأ السرير يهتز بشكل أعنف ومع ذلك كنت أغالب النوم فيغلبني بشدة؛ لأنني بالكاد نمت ٤٠ دقيقة، ولكنني صرت أردد الشهادتين وأسترجع وأستغفر مستعدة في اللاوعي للموت، وكأنني كنت غير مستوعبة خطورة ما يحدث.
فجأة صار للاهتزاز صوت وخلخلة، وبدأت أسمع تحرك أثاث الغرفة من حولي، مع اهتزاز شديد زلزل أركان السرير. وقبل أن أتخذ قراري بالنهوض خبط شيء قوي برأسي، ومن حجمه عرفت أنه لوح من ألواح خزانة الملابس المقابلة للسرير، ثم تلاه لوح آخر؛ متزامناً مع صراخ ابنتي الصغرى، هنا فقط صحوت وأنا أصرخ: "ماما أنا بخير.. انت بخير يا ماما؟".
ولكنها استمرت بالصراخ الباكي وكأنها تتوسل: "ماما.. انت منيحة.. ماما فيكي شي؟".
حاولت أن أصل إلى باب الغرفة لأفتحه وأطمئنها؛ لكنني لم أتمكن من الوصول إلى ابنتي؛ بسبب الركام الذي حال بيني وبين الوصول إلى باب الغرفة في ظلام دامس تام.
بعد محاولات وصلت ابنتي وفتحت باب غرفتي وهي تستخدم مصباح جوالها وتصرخ: "ماما انت منيحة؟ ماما كتير خفت تكوني متِ.. ماما كتير خفت شوفك ميتة".
طمأنتها وطلبت منها أن تساعدني على اجتياز الركام؛ لكنها هرعت إلى غرفة القطط لتطمئن على قططنا، ووجدت باب الشرفة مفتوحاً وإحدى القطط تقف على الحافة منكمشة على نفسها، وكأنه تستعد للقفز، فحملتها وأدخلتها بسرعة وأغلقت الباب، ثم رجعت، لتساعدني على الخروج من غرفتي لنجتمع بابنتي الكبرى التي كانت متسمرة في مكانها تصرخ وتجهش بالبكاء؛ لكنها هدأت حينما ضممتها وأختها إلى صدري، وفي هذه اللحظة بدأت الأرض تهتز تحتنا بعنف، وكأن البناء يقفز قفزات صغيرة ويميل يمنة ويسرة بعنف مع صوت مرعب، حينها لم نكن نشك للحظة في أن البناء سيقع وينهار الآن.
سحبت ابنتيّ إلى تحت عارضة أحد الأبواب، وضممتهما بشدة وهما تستغيثان الله، وقلت لهما بثبات لا أعرف كيف أكرمني به الله: "ماما نحن بين يدي الله وعلى مراد الله.. لازم نتأدب مع الله قولوا معي: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين".. وفعلاً هدأت البنتان، وصرنا نكررها دون توقف مع كلمة "يا رب.. يا رب".
كل هذا والزلزال مستمر في مدينة أنطاكيا، والبناء يهتز مع أصوات مخيفة.
كانت هاتان الدقيقتان تقريباً أشد هولاً من كل ما عشته في حياتي، حتى لما كنا عرضة للقصف في حلب لم نعش مثل هذا أبداً.
حتى تلك اللحظة ما كان النزول إلى الشارع وارداً أبداً في بالي؛ خوفاً من أن ينهار البناء ونحن على الدرج، لكننا أجمعنا كلنا في لحظة واحدة: "لازم ننزل من البيت فوراً".
هممت للحظة أن أضع عليّ أي شيء وأنزل؛ لكنني استعنت بالله واستجمعت كل ما عندي من رباطة جأش؛ لأصل ثانية إلى غرفتي وأحضر عباءتي وحجابي وأرتديهما بسرعة، وأحضر حجاباً لابنتي، وأتأكد فقط من أن معنا مفتاح البيت.
بعدها نظرنا إلى بعضنا بتصميم وقلنا: "ركض.. ركض دون توقف". أكتب هذه الكلمات وجسدي يرتجف أكثر مما ارتجفت لحظتها.
نزلنا الدرج بأسرع ما استطعنا، وعشنا هزة أو هزتين، ما عدت أذكر؛ لأن كل همي كان أن نصل إلى باب العمارة قبل أن ينهار المبنى فوقنا.
كنت أنزل الدرجات وأنا أستودع الله بيتي وقططي وكل ما أملكه، وأدعو بدعاء أبي الدرداء: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت.. عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
بعد طابقين بدأنا نلتقي بالجيران وهم ينزلون بسرعة ويتعثرون ونتعثر معهم؛ بسبب تحطم الدرجات وسقوط كساء جدران السلم وتشقق جدران بعض الشقق الملاصقة للسلم.
وصلنا إلى باب العمارة وأنا لا أكاد أصدق، فتحت الباب وأخرجت ابنتيّ ثم لحقتهما، وقطعنا الشارع إلى الرصيف المقابل، وهو رصيف ملعب سلة ونحن ننظر خلفنا، نتأكد أننا خرجنا من دائرة الخطر فيما لو انهار البناء الآن.
كان المطر يهطل بغزارة والظلام دامساً، لكنني استطعت تمييز بعض جاراتي فهرعت أطمئن عليهن، وأتأكد أن الجميع نزلوا من بيوتهم، كان الرصيف وملعب السلة والحديقة الملاصقة له والشوارع كلها تغص بسكان الحي كله، كنا جميعاً نرتجف من البرد والمطر والخوف بالتأكيد.
أتذكر الآن كيف التقطنا أنفاسنا وأحسسنا أننا تجاوزنا مرحلة السقوط تحت الأنقاض، وبدأنا نخاف أن تهتز بنا الأرض أو تتشقق الشوارع؛ لأن الهزات الارتدادية لم تتوقف، وبعضها كان يخيفنا فتنطلق الصرخات، ويعلو صوت بكاء النساء والأطفال وصراخ الرجال.
كانت العيون تدور في محاجرها، والكل يتلفت يمنة ويسرة، كلنا كنا ممزقين بين البحث عن الأمان والاطمئنان على بعضنا ومحاولة الاستتار من المطر الذي يصب صباً ونحن نرتدي ملابس خفيفة جداً وننتعل المشايات الصوفية التي غرقت بالمياه من أول خطوة.
كنا نرتجف من البرد بشدة، حتى أصواتنا صارت ترتجف، وأسناننا تصطك، ولكن عيوننا كانت تبحث عن كل معارفنا في الحي فنجري كلما رأينا أحد معارفنا ونسألهم عن جميع أهل بيتهم.
كان العجز هو سيد الموقف، الصراخ والبكاء والانهيار كان يقطع قلبي، وأقف عاجزة لا أملك إلا أن أحتضن من تبكي، وأحاول تهدئتها سواء أكانت سورية أم تركية. كنت أشعر أن قصوري في اللغة التركية هنا لا يعني شيئاً، لغة اللهفة وحدها هي اللغة التي يفهمها الجميع، لغة الاحتضان والطبطبة كانت أكثر ما أجيد فعله، وكانت رفيقة عيوني الباكية وصوتي المرتجف من البرد.
كنت أظن أنها دقائق ونرجع إلى البيت بعد انتهاء الهزات، لكن لم يبد أنها على وشك الانتهاء، ولم يبد أن المطر يريد التوقف، وصار الملاذ الآمن من المطر في هذه اللحظة أعز امنياتي.
كان البرد يفتك بعظامي وأناجي الله في سري أسأله مأوى، وصرنا ندور حول ملعب كرة السلة نبحث عن أي شيء نحتمي به من المطر، وفجأة صرخت ابنتي:
"ماما.. ماما أبواب سيارتنا مفتوحة"، فعلاً كانت أبوابها الأربعة مفتوحة، كانت أجمل أربعة أبواب رأيتها يوماً.
رمينا بأنفسنا داخل السيارة ونحن لا نكاد نصدق رحمة الله ولطفه بنا، بعدها بدأت الأخبار تتوالى، حتى عرفنا أن ابن أخي عالق تحت الأنقاض، وبعد 12 ساعة كاملة خرج في حالة صحية حرجة وبعد خروجه تم إسعافه، وتحركنا به إلى مدينة أخرى؛ لأنه كان يحتاج إلى عملية جراحية عاجلة.
أكتب كلماتي تلك وأنا في المشفى، لا أعرف أي مكان سيؤوينا بعدها، لقد عاصرت أحداث الثورة السورية والقصف في حلب، لكن ما عايشته في هذا الزلزال كان من أكثر الأشياء المرعبة التي عايشتها في حياتي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.