عندما يذهب المريض إلى الطبيب، يقوم الأخير فور وصول المريض بطرح بعض الأسئلة قبل البدء بعملية الفحص العيني، فإن وظيفته ومهمته الأساسية هي تشخيص المرض، كي يضع خريطة طريق لمعالجته ومكافحة حالة التفشي والتغلغل في كل الأعضاء، هذه العملية هي مرحلة حتمية تسبق أي نوع من الحلول والعلاج، وهذا النموذج يجب أن يُطبق على المستوى الأوسع والأكبر، فلقد شبه الفارابي المعلم الثاني الدولة أو الأمة بالإنسان، ليس بالشكل طبعاً، إنما بآلية الوظائف والحركة، من هذا المنطلق فإن عملية التشخيص الأوسع هي عملية ضرورية وحتمية لفهم حركة الأمم ونهضوها وسقوطها، وهذا الذي ميز ابن خلدون في كتابه الشهير "المقدمة"، فما هو المرض الذي تعيشه الأمة اليوم؟ قبل السؤال عن المرض، ما هو مفهوم الأمة اليوم كمصطلح عصري وحديث بعد أن تغيّر مفهوم الدولة والسيادة وشكل الدول وآلياتها البيروقراطية؟ هل نحن أصلاً قومية؟ هل نحن أمة بالمفهوم السياسي؟ هل نحن مجموعات طائفية كما تصنفنا مراكز الأبحاث الإسرائيلية في إسرائيل؟
للحقيقة كل هذه الأسئلة تستحق البحث والتعمق للوصول للحقيقة التي لن تكون نهائية بطبيعة الحال، ولكني لن أخوض في هذه الجدليات في هذه المقالة، وسوف أخصص مقالات أخرى عن تلك الأمور التي تستحق البحث، ولكن السؤال الأعمق والأهم والضروري في هذه الفترة المفصلية، والذي يعتبرها البعض ربما كثير أنها ترفٌ فكري محصور بالنخب الفكرية والثقافية والصالونات، هل قمنا بإنتاج ثقافتنا الخاصة بنا؟ قد يسأل أحدهم ما أهمية إنتاج الثقافة في هذه الظروف، حيث يعيش العالم العربي حالة صعبة ومستعصية؟ الجواب بسيط، إن مفهوم القومية على سبيل المثال يبدأ بتأسيس حالة سياسية واحدة لوحدة ثقافية معينة، لذلك نحن لم نصل إلى حالة الدولة التي تتمتع بالاستقرار السياسي والاجتماعي. ولكن ما هي معركة الثقافة وما دلائلها البنيوية في عملية بناء المجتمع والدولة معاً؟
الجميع يستحضر التجربة الأوروبية من أجل تطبيقها في بلادنا المشرقية، ولكن غاب عنهم أن الثورة الصناعية سبقها ثورة ثقافية من خلال عصر النهضة والتنوير، ففي هذا العصر تكونت مجموعة من المفاهيم التي أصبحت جزءاً أساسياً من تكوين العقل الأوروبي ونزعته العقلانية التي كانت ردة فعل لعصر الظلمات والتراجع الإنساني والحضاري، ولكن أوروبا كونت ثقافتها الخاصة بعد أن تثاقفت، وأخذت من العلوم العربية والإسلامية، هكذا كانت بداية الثورة الثقافية التي أنتجت مجموعة من المفكرين والفلاسفة أمثال مونتسكيو وفرنسيس بيكون وهيغل وروسو وغيرهم، أما في الشرق، فإن شرق اليوم هو صناعة الغرب في كل مجالات الحياة الثقافية، عندما سقطت الدولة العثمانية وتم تقسيم تركتها إلى دويلاتٍ كما رسمهما سايكس وبيكو، لم يكن المعيار الثقافي الإيجابي إنما السلبي والمنتج للأزمات في تلك الكيانات ولم يكوّنوا دولاً بشكلها الحديث، فإنهم طوائف ولم يصلوا إلى مرحلة القوميات بالمعنى الحديث أصحاب السيادة السياسية والثقافة الموحدة، وهذه المشكلة أدت إلى صراع الهويات، ثم إلى فشل الديمقراطية كآلية جديدة وحديثة بسبب تمييز هوية على أخرى، فسقط مفهوم المواطنة والديمقراطية.
حتى نوضح ونشرح الموضوع، سوف نُعطي مثالاً حياً، ففي سنة 1648 وصلت أوروبا بعد أن خاضت حروباً طاحنة أُسسها طائفية إلى اتفاقٍ جديد سُمي بمؤتمر وستفاليا، مفاده هو انتقال الصراع من صراعٍ طائفي إلى صراع قوميات، حيث تكونت بعد فترة زمنية القومية الفرنسية والألمانية وغيرها من القوميات، ولكن تلك المفاهيم أدت إلى تدمير أوروبا بالكامل خلال حربين عالميتين لاحقاً، حينها أخذ بعض المثقفين العرب تلك الفكرة مثل ميشال عفلق وصلاح جديد والبيطار وغيرهم، وقاموا باستيرادها من أوروبا إلى تركة الدولة العثمانية، لا شك أن الدولة وقتها تحوّلت من مفهوم الأمة التي تساوي بين جميع المواطنين إلى تعزيز القومية التركية على باقي المجموعات العرقية والإثينة، وعززت كل أشكال الفروقات، كانت الأجواء السياسية والاجتماعية مُهيأة لاستقبال مثل تلك الأفكار، ولكنها فشلت بكل بساطة بعد أن كان لها صعودٌ ناري، خصوصاً في الستينيات.
لن أدخل في تفاصيل تلك الفترة أكثر، ولكن يجب التنويه إلى أن الكثير من الحركات القومية تحولت إلى حركاتٍ طائفية مثل حزب البعث السوري، حتى المفهوم العلماني وسرديته التاريخية وجدليته أيضاً نتاج غربي وغير مشرقي، وتم استيراده، فكل الثقافات والأفكار مستوردة، ولا تتناسب مع الواقع المشرقي الذي كان بطابعه لفترة زمنية طويلة إسلامي، كقانون ومجتمع وفقه وثقافة التي هي نتاج مصادر التشريع، لذلك تولدت صداماتٌ فكرية بين الإسلاميين أصحاب مشروع الإسلام السياسي، الذي هو مصطلح مستورد أيضاً وبين القوميين والعلمانيين والليبيراليين، وهذا يعود إلى عدم إنتاج ثقافة جامعة تجمع تلك الجماعات التي تعيش ضمن وحدة إدارية، تحوّلت إلى وحدة سياسية واحدة، وبعد ذلك التحوّل تحوّلت الإدارة السياسية الجديدة إلى ساحة صراع لم تقتصر على الفكر، إنما إلى شلالاتٍ دامية، وهذا بسبب الاستيراد الشمولي للأفكار الخارجية، كيف لنا أن نصبح دولة أو أمة ولم ننتج ثقافتنا الخاصة؟ كيف لنا أن نعالج المريض بالقلب بعلاج المريض بالكبد؟ هل المرض الأوروبي هو نفسه المرض الذي نعاني منه؟
كلا، هذا استنتاج ٌخاطئ وقاتل، ولكن هذا لا يلغي مفهوم التثاقف والانفتاح وتبادل العلوم والمعرفة والاستفادة منها، ولكن بعد فترة من عملية تكوين ثقافتنا وهويتنا الخاصة، فإن أوروبا لم تطبق النموذج الشرقي لعلاج مرضها، إنما قامت بترجمة الكتب العربية، وقامت بدراستها وأخذت المناهج وقامت بتغيير الوسيلة للنهضة والإصلاح الفكري والثقافي بعد أن تعرّضت إلى صدمتين حضاريتين في الأندلس وفي القسطنطينية بعد أن سقطت بيد السلطان محمد الفاتح، لذلك واجب، بل فرضُ عين علينا أي كل مكونات المجتمع بجميع شرائحه الفكرية والدينية والطائفية أن ننتج ثقافة تتناسب مع تنوعنا لتأسيس مفهوم الأمة صاحبة السيادة كي نتحوّل فعلياً إلى دولة تستوعب تلك الشعوب، ويتم تحويلهم إلى شعبٍ واحد صاحب ثقافة واحدة غير مستوردة، إنما تم إنتاجها داخلياً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.