في مثل هذه الظروف العالمية والتي يعاني فيها كل أفراد الجنس البشري من المآسي الاقتصادية بسبب أزمة التضخم التي عصفت بالكوكب، يتمنى بعضنا أن تأتيه الفرصة وإن كانت لبعض الوقت فقط كي يجرب حياة الأغنياء؛ حيث يستمتع بالطعام الفاخر، والمشروبات الغريبة التي لا نستطيع نطق اسمها، والأزياء العجيبة اللافتة للأنظار، ونظن أن في هذه التفاصيل التي يمتاز الأغنياء في إظهارها أمام أعيننا تكمُن السعادة.
ولكن لخيبة أملنا، نكتشف أن تلك الأشياء ليست في النهاية سوى أقنعة بائسة، تخفي وراءها كوارث لا نعلم عنها شيئاً، وطبقية متجذّرة في العرق البشري، وهنا يقدم لنا المخرج Mark Mylod في فيلمه The Menu لمحة لما يقع أسفل تلك الأقنعة.
بالطبع قد لا يتعرف كثير منكم على اسم هذا المخرج، ولكنه أحد أشهر المخرجين الذين شاركوا في إخراج حلقات المسلسل الشهير Game of Thrones.
والآن يقدم للجمهور فيلمه الجديد من بطولة Ralph Fiennes و Anya Taylor-Joy و Nicholas Hoult والذي استطاع حصد إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء؛ لذا دعنا نتحدث قليلاً عن الفيلم.
عن فيلم The Menu
في البداية، قد تظن أن قصة الفيلم بسيطة نسبياً، فهي تسرد قصة شاب وشابة مرتبطين، يقرران الذهاب لمطعم مشهور والذي يقع في جزيرة معزولة، كي يجرّبا بأنفسهما أطباق الطاهي العالمي الشهي، والذي سيضع الكثير من المفاجآت في أطباقه.
يذهب الرفيقان إلى الجزيرة مع بعض الزبائن الآخرين من أعلى طبقة اجتماعية واقتصادية على هذا الكوكب، وحين يصلون جميعا إلى المطعم يستقبلهم الطاهي العظيم Slowik والذي يقوم بدوره الممثل القدير Ralph Fiennes حيث نبدأ التعرف بشكل حقيقي على شخصيات الفيلم، وتبدأ أحداثه الجدية بتقديم أول أطباق المطعم ومعه أولى مفاجآته وصدماته.
استطاع الفيلم حصد ثمانية ترشيحات لثماني جوائز؛ منها جائزة أفضل فيلم في مهرجان Leiden الدولي وكذلك جائزة أفضل ممثل في جوائز Satellite لعام 2023.
فيلم The Menu والواقع الطبقي للبشر
يمتاز فيلم The Menu بأنه ينتمي إلى تصنيف مثير للإعجاب بالنسبة لي، فهو ينتمي لتصنيف الرعب والكوميديا السوداء، ويتجاوز طابعه الكوميدي بسرعة فائقة حين يقدم شخصياته الأساسية وضحايا الطباخ العالمي والذين يتكونون من مجموعة الأغنياء والمشاهير الذين يمثلون الواحد بالمئة من البشر والذين بدورهم يحكمون عالمنا المعاصر بأموالهم.
فهناك نجم السينما العالمي، يرافقه مساعده الخاص، ثم لدينا ملوك وادي السيليكون وشركات التكنولوجيا العابرة للقارات، يرافقهم رجل عجوز غني من علية القوم مع زوجته، ثم أخيراً ناقدة طعام ومساعدها.
جميع هذه الشخصيات، تجتمع سوياً في مطعم الطاهي Slowik ليتذوقوا قائمة طعامه ويبدوا رأيهم فيها ويعبروا كذلك عن إعجابهم و ملاحظاتهم عنها، ولكن الطاهي سرعان ما يصدمهم بالحقائق خلف أقنعتهم، ليدفعهم مع كل وجبة من قائمته إلى الموت، وتتحول ليلتهم التي كانت من المفترض أن تكون مليئة بالملذات إلى كابوس يسعون للوصول لنهايته قدر استطاعتهم.
حين تشاهد فيلم The Menu، وتسرد مشاهدة الأحداث والحوارات بين شخصياته، ستجد أنه يمنح تعليقات مهمة حول الفرق المفزع بين طبقة الأغنياء من ضيوف المطعم وطبقة الفقراء.
ففي عالم يشكل الجوع والفقر معظم مشكلاته الأساسية، شريحة مهولة من البشر لا تستطيع توفير قوت يومها الذي يضمن لها الطعام الكافي، وعلى الجانب الآخر، ستجد طبقة الأغنياء التي لا يمكنها توفير الطعام فقط من أغلى المطاعم العالمية، بل توفيرها بالكثير من المكونات غير الضرورية والتي يتطلب توفيرها كمية هائلة من المال والعبودية في الدول الفقيرة التي تشكل مصدرها الوحيد، وهكذا يسخر الفيلم من هذه الفئة ومن هذا الميزان المختل على نطاق عالمي بشكل مثير للشفقة.
ففي العالم الذي يسخر منه فيلم The Menu، ستجد طبق طعام يكلف أكثر من خمسين دولاراً، وزجاجة نبيذ تكلف آلاف الدولارات لأجل كوب واحد فقط، عالم لا يوجد حتى في خيال أكثر الطبقات المتوسطة رفاهية، وينعدم تماماً من أحلام الطبقة العاملة.
وبين بداية فيلم The Menu ونهايته، ستجد أنه يصنع صورة مصغرة لحقيقة عالمنا اليوم، فالأغنياء في هذا المطعم يأكلون الطعام فقط، بينما الفقراء والعاملون يعدونه لهم ولا يحلمون حتى بتذوق ملعقة منه.
ولكن الطاهي العبقري، يسعى لإعطاء درس لا يُنسى للمشاهد، فيقدم مع كل طبق جديد لأغنيائه صدمة تكشف حقيقتهم لنا ولهم، مذكراً لهم بأن العالم ربما سيكون أفضل بدونهم.
ولكن دائماً ما تصدمنا الحقيقة المُرة، فحتى وإن مُحيت النخبة العالمية عن بكرة أبيها كما حدث في الفيلم، ستأخذ مكانها طبقة أخرى، فالطبقية طبيعة أساسية في الجنس البشري، ونتيجة حتمية للاختلاف.
والطريقة الوحيدة لمعالجة هذا الاختلاف، ليست عن طريق محوه كما تسعى الأيديولوجيات الغربية اليسارية لفعلها، بل عن طريق التكيّف مع ذلك الاختلاف وإحياء مبدأ التكافل بين أفراد البشر.
فهؤلاء الأفراد الأغنياء من زبائن المطعم، كانوا أشر البشر في النهاية، وليس ذلك لانعدام مبدأ التكافل في عقولهم، بل لأنهم أصبحوا من النخبة عن طريق دفع بشر آخرين إلى الهاوية متعللين بمبدأ المنافسة ومتجاهلين مبدأ التكافل.
القصة الحقيقية خلف فيلم The Menu:
بالطبع أحداث فيلم The Menu من خيال مؤلفيه تماماً، وهما الكاتبان Will Tracy و Seth Reiss، ولكن في إحدى مقابلات الكاتب Will Tracy طبقاً لـ Above The Line قال إنه مرّ بموقف حقيقي كان السبب في كتابته للفيلم وهذا نص قصته:
"في إحدى المرات ذهبت إلى مطعم في النرويج والذي كان يقع على جزيرة، مشابه تماماً للمطعم والجزيرة في الفيلم، ولكي نذهب للجزيرة، أخذنا قارباً، وكنا حوالي خمسة عشر زبوناً فقط، وكانت الأجواء على القارب والجزيرة مظلمة بالكامل، وأنا أشعر بالخوف من الأماكن المزدحمة والضيقة وكذلك أشعر بالقلق لكوني مجرد سائح في بلاد غريبة.
وهكذا حين أخذونا بجولة في القارب وعبر الجزيرة، كنت أسأل نفسي باستمرار حول ما الأشياء السيئة التي قد تحدث لي هنا، وبالطبع سرعان ما شعرت بالفزع، وكان سبيلي الوحيد لطمأنة نفسي هو التفكير بأنني يمكنني الكتابة عن هذه التجربة، بل ويمكنني صناعة عمل ملائم لها".
وهذا بالفعل ما حدث حين تواصل الكاتب ويل مع صديقه تريث وقررا البدء في كتابة الفيلم ليجعلاه أحد أفضل الأفلام التي صدرت هذا العام، بل وأحد أفضل الأفلام التي تناقش أزمة الجوع والطبقية العالمية حتى الآن.
في النهاية:
إن كنت تحمل بعض المشاعر الدفينة ضد نخبة العالم من الأغنياء، ففيلم The Menu هو فيلمك المناسب، فهو لا يقدم مجموعة من الأحداث المرعبة والسخرية السوداء الجديرة بالإعجاب فقط، بل كذلك يتسلل عبر الموضوعات الشائكة للفقر والجوع والعبودية، وكيف تتجاهل هذه النخبة حقيقة أنهم يتمتعون بحياتهم بسبب معاناة بشر آخرين، متجاهلين تماماً مبدأ التكافل الإنساني والاجتماعي.
وبالطبع لا يمكننا أن نتجاهل كذلك الأداء العبقري للممثل Ralph Fiennes والذي قد تتذكرونه جميعاً لدوره الأيقوني في سلسلة هاري بوتر كلورد فولدمورت؛ حيث إن الأداء فوق الممتاز له يجعلك ترغب في مشاهدة الفيلم لأجله فقط والاستمتاع بأدائه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.