يأتي معرض القاهرة للكتاب كل عامٍ في نفس التوقيت ليُذكرنا بالقراءة، والتي كما يقولون تجعل الواحد منّا يعيش ألف عام قبل أن يموت فعلاً.
اخترت من ضمن قراءاتي لهذا العام ثلاثة كتب، كانت الأكثر تأثيراً عليّ، فأولها كتاب أشبه بسيرة ذاتية، وهو أنا قادم أيها الضوء، لمحمد أبو الغيط، والذي نال شهرة واسعة مؤخراً، يستحقها عن جدارة حقيقةً، وكتاب الكتاب الذي تتمنى لو قرأه أبواك، وسيكون أطفالك سعداء لو قرأته، للكاتبة فيليبا بيري، والذي يُوجه الآباء والأمهات للتفكير في طريقة جديدة للتربية، بخلاف ما نشأوا عليه، وأخيراً كتاب أثار اهتمامي فعلاً، لتناوله موضوعاً يتحدث عنه حالياً الجميع تقريباً، وهو سيكولوجية الأموال، وفيه يحاول الكاتب مورجان هاوسل إقناعنا بأن ننظر نظرة مختلفة إلى المال، فربما نصبح أغنياء يوماً ما، كما نتمنى.
خياري الأول من معرض القاهرة للكتاب 2023 : أنا قادم أيها الضوء
برغم صدور كتاب العزيز الراحل محمد أبو الغيط منذ شهورٍ قليلة، فإنّني أرجأتُ قراءته عمداً، حتى أتهيأ نفسياً للدخول في قلب المُعاناة، التي عاشها محمد في سنوات عمره القصيرة والأخيرة، والتي ياللغرابة لا تخلو من جمال فريد من نوعه في الوقت نفسه.
أردت أن أقرأ الكتاب لأجيب عن السؤال الذي كنت أفكر فيه دوماً، هل كان ذلك الجمال الذي يتحدث عنه أبو الغيط، والذي يراه في العالم من حوله، بينما هو يمر بأسوأ لحظات حياته، لُطفاً حقيقياً أنزله الله عليه رحمةً به؟ أم أنّ محمد كان يُسقط فقط من جمال روحه العذبة على كل شيءٍ من حوله وهو لا يدري؟
بدأت في قراءة الكتاب وأنا أُفكّر فقط في ذلك الألم الذي عاشه محمد. كنت أفصل تجربة المرض وآلام الجسد والخوف من فراق الأحبة القريب، عن محمد نفسه، بعظمة نفسه ونورانية روحه، ما جعل الأمر أشدّ ألماً عليّ مما كنت أتصور، وذلك لأنّ أبو الغيط في الواقع كان من ضمن دوائر أصدقائي المُقربين، والتقيته قبلاً مرات قليلة، كنت أعرفه بشكلٍ أو بآخر، ولكن حينما تقرأ لإنسانٍ يتألم وعلى حافة الموت فكأنك ترى روحه وقد صارت شفافة، وتجد نفسك تعرفه وتتألم لألمه، وكأنّك أقرب الأقربين له.
"لو تحققت نجاتي بمعجزةٍ ما فسأسعى لما بقي من عمري نحو ذلك الضوء، الذي زادت خبرتي به وتقديري له في أيام مرضي، وسأمنح ما أستطيع عرفاناً لكوني محظوظاً بزوجة مضيئة، وبأبٍ وأمٍ مضيئين، وبالكثير من الأصدقاء الذين يطمئنني ضوؤهم لحقيقة الخير في الدنيا. ولو وافاني القدر، ورحلت في الوقت الذي قدّره الأطباء، فإني أرجو أن يكون ما بعد نفقي نوراً وهدوءاً وأمناً، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد ينقب ولو ثغرة واحدة، ليمر منها بعض الضوء إلى من يقرأ".
أغوص بداخل الصفحات التي تحكي عن تفاصيل حياة محمد الثريّة، الشابّ الذي "سبق سنّه" في كل شيءٍ، حتى في الموت. يتحدث محمد فيه عن كل شيءٍ، عن حب الوطن والكتابة والأصدقاء والسفر والعائلة، ولكن يظل الحضور الأعظم للمرض، أو ربما الأفضل أن أقول للألم، الذي كان سبباً في أن يخرج كل ذلك الجمال للنور.
المُلهم في كتاب أنا قادم أيها الضوء، هو أنه من الصعب، ويكاد يكون من المستحيل ألا يضع الواحد منّا نفسه مكان أبو الغيط، فكلماته تلمس الروح، وتحثّ النفس على التأمل في حقيقة الدنيا، تُذكرنا بما غاب عنّا، وبما نحاول أن ننساه وهو على بُعد خطوة واحدة منّا، الموت.
"لا أعرف أيهما أكثر رعباً، الغدر المفاجئ، أم الإدراك التام لسيناريو مستقبلي تعيس لا يمكن منعه".
التطهير هي الكلمة التي يُمكن أن أصف شعوري بها، بعدما انتهيت من قراءة كتاب محمد أبو الغيط، ذلك الشعور الذي يأتي بعد المرور بالمأساة، وموت محمد كان مأساة، وقراءة يومياته مع مرضه اللعين كانت مأساة، وفراقه للوطن وللأحبة كان مأساة. ألمٌ مُتصاعد أشعر به وأنا أقرأ كلماته، لا يُخففه سوى حكايات محمد الشائقة ودعاباته الذكية الساخرة. أتطهّر كلما أقرأ، وأشعر وكأنني خضت التجربة كما خاضها محمد بالكامل، ولكن الفارق أنّني نجوت، ولم ينجُ هو.
"أما أنتم يا من وصلتم في القراءة إلى هنا، فأحسب أن المعنى واضح: اسعدوا بكل يوم طبيعي، بالطبع اطمحوا واسعوا بأقصى الجهد للأفضل، لأنفسكم، وأسركم، وبلادكم، لكن إن لم يحدث فلا بأس كل يوم من المعافاة هو إنجاز عظيم".
نعم يا محمد، ليكن الدرس الأعظم الذي خرجت به من كتابك وأحاول أن أتذكره كل يوم، هو أنّ كل يوم من المعافاة، هو إنجاز عظيم.
طبت حياً وميتاً يا أبو الغيط.
خياري الثاني من معرض القاهرة للكتاب 2023: الكتاب الذي تتمنى لو قرأه أبَوَاك، وسيكون أطفالك سعداء لأنك قرأته
لفت نظري اسم الكتاب، وأول ما فكرت فيه حينما قرأت اسمه للمرة الأولى، هو ما سيُفكر به أطفالي حينما يكبرون قليلاً ويقع بين أيديهم ذلك الكتاب، فهل سيتمنون حقاً لو كنت قد قرأته؟
وخوفاً من البكاء على اللبن المسكوب، ها أنا ذا أفعل ذلك الآن.
أول ما لفت نظري في الكتاب كان هو حينما تحدثت الكاتبة والمعالجة النفسية الإنجليزية فيليبا بيري عن إرث التربية، الذي نرثه من آبائنا وأمهاتنا، ونُسلّمه لأطفالنا بالتبعية، بما فيه من أخطاءٍ وسلبياتٍ، وهو الشيء الذي يحدث بغير وعيٍ منّا للأسف.
خطأٌ فادح نقع فيه جميعاً، رغم أنّه يصعب الاعتراف به، حتى لأنفسنا، فمن منّا سيُدرك مثلاً أن توبيخه المستمر لأطفاله ونقده الدائم لأقل شيءٍ يصدر منهم، ما هو إلا إنعكاس لما كان يحدث معه من أبواه، حينما كان طفلاً؟ أو ربما يحدث العكس، فنتوقف عن تقويم سلوك أطفالنا تماماً وتركهم يفعلون ما يُريدونه بلا حساب، وذلك لنُجنّبهم ما كنّا نتعرض له من سيطرة وتحكم بالغين؟
"مهما كان عمر طفلك فهو يُذكّرك دائماً بالمشاعر التي تعرّضت لها يوماً، حينما كنت في نفس عمره".
أُدرك تماماً ما تعنيه فيليبا بيري، فنحن أسرى طفولتنا وما حدث فيها، والوعي بذلك الشيء هو عامل مهم جداً، قد يجعل سلوكنا يختلف تماماً مع معاملتنا لأطفالنا، لنقطع تلك السلسلة التي نكون نحن فيها مجرد حلقة، تصنع من آلامنا في الماضي، آلاماً جديدة لأطفالنا في المستقبل.
نُقطة أخرى أثارت اهتمامي، وهي أننا في الغالب لا ننظر لعلاقتنا مع أطفالنا على أنّها ستكون علاقة طويلة الأمد، فهم في نظرنا سيظلّون أطفالاً إلى الأبد، وأننا نعتني بنظافتهم وطعامهم وملبسهم بأكثر مما نُعطي اهتماماً بصنع علاقة جيدة، وتواصل حقيقي معهم.
"إذا تصرفتم على أساس أنّ جزءاً كبيراً من رعاية الأطفال يتمثل في فرض رغبتكم على الأطفال، فإنّ أنماط التعامل التي سيتعلمونها من ذلك ستكون مؤذية. فإنّ تعلّم الطفل مثل هذا الخيار المحدود من الأدوار، الفاعل أو المفعول به، فإنّ ذلك سيحدّ من قدراته كشخص، فهو إما يكون ضحية أو يكون بلطجياً، ولا شيء آخر".
أكثر ما راقني في الكتاب هو الأمثلة الكثيرة لمواقف الكاتبة مع أطفالها وأطفالٍ آخرين، واعترافها بأخطائها في التربية وطريقة تعاملها في تصحيح تلك الأخطاء، لاستعادة العلاقة الصحية مع أبنائها من جديد.
خياري الثالث من معرض القاهرة للكتاب 2023: سيكولوجية المال
"سيُغيّر هذا الكتاب طريقة تفكيرك عن المال والحياة المالية، وسيُعلمك الكثير من الأسرار النفسية حول تنمية ثروتك، والاستثمار، وكيفية اتخاذ قرارات مهمة، وأن تُرتب حياتك المالية بما يكفل استمرارك في اللعبة حتى النجاح".
جذبتني تلك الكلمات لمترجم كتاب سيكولوجية المال، ووجدت نفسي أود أن أقرأه، رغم أنّ قراءة الكتب التي لها علاقة بالاقتصاد هي شيء لا يثير اهتمامي بالمرة، ولكن نظراً للظروف الاقتصادية الضاغطة على مجتمعاتنا في الفترة الأخيرة، كان لا بد أن يتغير شيء ما، إما بزيادة المال، أو بتغيير نظرتنا إلى المال الموجود فعلاً، فربما نكتشف أنّنا لسنا في حاجة إلى المال فعلاً كما نظن، وكان الخيار الثاني فقط هو المُتاح بالنسبة لي.
الكتاب طويل وممتع ومليء بالقصص والحكايات الشائقة التي كتبها الكاتب الأمريكي مورجان هاوسل، وللأسف لن تكفي كلمات مقالي القليلة للحديث عنه كما يستحق، ولكنّي سأحاول الحديث عن النقاط التي جعلتني أنظر إلى المال بنظرة مختلفة فعلاً، عما كنت أفعل من قبل.
"يُفكر الشخص الذي نشأ في الفاقّة، في المُجازفة والمكافأة، بطرائق لا يُمكن لابن مصرفي ثري أن يفهمها إن حاول".
تلك الجملة السابقة تُمثلني أنا وقطاعاً كبيراً من الناس بشدة، رغم أننا لم ننشأ في فقرٍ، ولكننا نتعامل مع المال وكأنّه مكافأة لا بأس بهدر الكثير منها، في حال كوننا لا نشعر بشعورٍ جيدٍ فحسب. وهي مشكلة صغيرة، أعرف أنها تسبب لي دائماً مشكلة أكبر منها.
"ثمة مليون طريقة للثراء، والكثير من الكتب التي تتناول كيفية الوصول إليه، لكن هناك طريقة واحدة فقط للبقاء ثرياً، إنها مزيج من حسن التدبير والبارانويا أو جنون الارتياب".
شعرت بالخجل وأنا أرى مورجان هاوسل يعرف بالضبط فيما أفكر، أنا والكثيرون أمثالي، نحن من نحلم بالثراء، في حين أننا لا نفعل أي شيءٍ من أجل أن نصل إليه، بل ما نفعله هو العكس تماماً، فنحن على حد قوله: "ننفق المال الذي لا نمتلكه، ونتوقع أن نصير أغنياء". فكيف هذا؟
كلما توغلت في قراءة كتاب سيكولوجية المال أيقنت أنّنا كثيرون حقاً، نحن من نكره الادخار، ونحب أن نصرف الأموال في سبيل سعادتنا المؤقتة، ونشكو في الوقت نفسه من كوننا لا نحظى بحياة أفضل مع الوقت.
وهنا يقول هاوسل جملة عبقرية وبسيطة في الوقت نفسه:
"غرور أقل، وثروة أكبر. إنّ إدخار المال هو الفجوة بين غرورك ودخلك. الثروة هي ما لا تراه، لذلك تُبنى الثروة من خلال كبح ما يُمكنك شراؤه اليوم، من أجل الحصول على مزيدٍ من الأشياء في المستقبل".
كتابٌ رائع وعمليٌّ فعلاً، وعشرات الأمثلة والقصص التي يتضمنها، تقول بأنّ التغيير ممكن حقاً، فقط إن أراد الإنسان ذلك وسعى بصدق لهذه الغاية.
سعيدة للغاية باختياراتي الثلاثة هذه، من الكتب الموجودة بمعرض القاهرة للكتاب الدولي لعام 2023، ولم أندم على أي واحدٍ منها ولله الحمد.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.