تخيل أن تسنح الفرصة لكلود ليفي شتراوس "الأنثروبولوجي الفرنسي اللامع"؛ ليتجول في معرض القاهرة الدولي للكتاب، ليدلف من صالة عرض إلى أخرى، لا ليشتري كتباً عن الفلسفة والتاريخ، بل ليفحص السلوك البشري المرتبط بالمعرفة والبحث عن المعنى، هذا بالضبط ما تفقده الصورة التي يرسمها معرض الكتاب الأكبر والأعرق في منطقة الشرق الأوسط، فليس هذا المعرض مجرد سوق موسمي تُباع فيه الكتب أو يقف عند كونه ملتقى يجمع الناشرين والموزعين، بل سيمثل لشتراوس، أو أي أنثروبولوجي نابه، أو فيلسوف متمكن، فرصة عظيمة لدراسة حالة المجتمع المعرفية، بل والدخول بها إلى إحالات على عوالمه الاجتماعية والسياسية.
"قل لي ماذا تقرأ، أقل لك من أنت"
من الصعب حتى أن تجد المعرض الدولي الكبير يؤدي وظائفه التقليدية المنوطة به، فالمعرض فرصة للناشر لدراسة اتجاهات الجمهور وحالة السوق والمتطلبات التي يتطلبها التغيير في خطط النشر وسياسته لمواكبة القراء وحاجاتهم الحقيقية، وفرصة أيضاً للقارئ كي يستكشف مساحات جديدة من المعرفة كان يجهلها، كما أنه فضاء مهم لرصد النتاج الفكري وفهرسته وترتيبه على نحو يساعد الباحثين والمهتمين بالمجال المعرفي، كما أنه ملتقى مفتوح لآلاف النقاشات المفتوحة التي من الممكن أن تبث الحيوية في المجتمع وأفكاره، لكن وظائف المعرض تقلصت عبر الزمن حتى صار معرض الكتاب سوقاً لا ترحم، وحرباً لتكسير العظام بين الناشرين، بعضهم البعض، وبينهم وبين الموزعين والعملاء، ودخلت ظواهر غير صحية بالمرة في فضاء الفاعلية الثقافية، بل دخيلة عليها، لنجد المعرض وقد تحول إلى منافسة من دور النشر على استقطاب المشاهير و"اليوتيوبرز" الذين لا علاقة لهم بالكتابة ولا الأدب ولا الفكر، ولكن عندهم "الفانز" الذين يمثلون شريحة تسويقية كبيرة، وبالتالي صرنا نرى في معرض الكتاب نوعاً من حفلات الجنون الجماهيري تذكرنا بحفلات مايكل جاكسون.
وللإنصاف، فليست تلك الصورة رغم طغيانها هي التي تمثل المعرض حصراً، فما زال هناك القراء الذين يبحثون عن الأدب الجاد والإنتاج المعرفي الرصين، وطلبة العلم الذين يقصدون المعرض لشراء الكتب والمتون والمراجع، لكننا نجد في هذه الصور حصراً لوظيفة المعرض كسوق يباع فيه ويشترى.
إن الإنسان كفرد سلوكاً وأفكاراً ومشاعر، وكجزء من مجموع، وكحلقة حضارية، هو موضوع علم الأنثروبولوجيا، ومن هنا، ومن إمكانية رصد عديد من تلك الجوانب في فضاء معرض الكتاب، فإن المعرض يعد فضاءً مناسباً وحيوياً لدراسة الإنسان وجوانبه الثقافية والمعرفية والاجتماعية والسلوكية، على الأقل فيما يتصل بعلاقته مع المعرفة إنتاجاً واستهلاكاً.
الناس يقفون عند أجنحة العرض، يسألون عن كتب معينة، أو يبحثون بأنفسهم بين آلاف الأغلفة عما يعجبهم ويلفت أنظارهم، يفاضلون بين كتابين أو عدة كتب، يسألون ويمرون، أو يشترون، يقيّمون بعض الكتب كأثمن من أخرى بناءً على عوامل عدة، فهناك استعداد عند البعض لشراء كتاب ما بمبلغ يفوق أضعاف ثمن كتاب آخر لن يرغبوا في شرائه بسبب سعره المرتفع.
سؤال واحد، كسؤال: "ماذا يقرأ المصريون؟" كفيل بأن يدلنا على الحالة المعرفية للمجتمع المصري، وعلى اتجاهاته الفكرية، فهل توجد إحصائيات دقيقة لاتجاهات شراء الكتب ودوافعها، والتي يمكن أن تتوفر في معرض الكتاب لو كانت هناك نية صادقة لهذا؟ أنا أجزم بأنه لو وجدت تلك الإحصائيات فإنها ستفيد كثيراً على مستوى صناعة الثقافة ودراسة المجتمع، بل وفي التعامل مع بعض الأزمات المادية والنفسية والفكرية التي تواجه أفراد المجتمع.
ولنضرب مثالاً، ماذا لو عرفنا، عبر إحصائيات دقيقة، اهتمام شريحة مناسبة من الشباب بالكتب التي تواجه الإلحاد، هنا إشارة لكون هكذا موضوع يشغل بالهم، سيكون علينا حينها التأكد من جودة تلك الكتب وإلا إنتاج بديل لها قائم على طرح رصين وأسلوب تقديمي جذاب ومقنع، وهذا غيض من فيض.
إلى هنا نصل إلى ضرورة قصوى يطرحها المقال، هي أنه لا بد من تأسيس مراصد ترافق معرض الكتاب في عمله، ومنها:
– مرصد للصادر حديثاً من الكتب والترجمات، يفهرسها ويرتبها.
– مرصد لاتجاهات الشراء والقراءة، ودوافعها.
– مرصد للقضايا التي تهم القراء.
– مرصد لظواهر مثل البيست سيلر وكتب البلوجر وغيرها.
– مرصد للسلوك، فيما يتصل بالمعرفة.
– مرصد لجودة النشر.
– مرصد لعلاقات الكتاب والقراء.
كل تلك المراصد ضرورية لتحسين الصناعة الثقافية، ومساعدة الناشرين والكتاب وصناع القرار على السواء، كما أنها مهمة لرصد جانب مهم من جوانب المجتمع، وهو جانبه المعرفي والثقافي.
معرض القاهرة الدولي للكتاب ما زال من العناصر الباقية من القوى الناعمة المصرية في المنطقة العربية، فهو درة تعطينا إشارات على رغبات بشرية للانفلات من واقع مادي ثقيل، ما زال الناس يسعون خلف الحرف والكلمة، رغم طغيان المادة وسطوة الصورة المتحركة، حين أنظر إلى طفل صغير وقد غاص في كلمات كتاب يملؤني إيمان بأن فينا سراً ربانياً يرفض أن نصير آلات كما أتفق، عبر 4 صالات كبرى يبحث الناس بمختلف مشاربهم عن ري، ري لأرواحهم التي انضغطت تحت وطأة تعاقدية وفردانية تركتاها في مهب الريح.
لكل صالة طابع، ولكل ركن جغرافيا تحكيه، أمم جمعها المكان وفرقتها المشارب، شرق آسيويين منبهرون أمام كتب التراث، وأفارقة احتضنوا متون اللغة، وباحثون حصلوا على غنيمتهم، مستكشفون، ومغامرون صغار، قراء مخضرمون يضعون قوائم تشبه خطط الحروب، مفاوضات ومساومات، وعلاقات حب وغيرة وغضب مع الكتب، أغلفتها، أسعارها، وكتابها، إنها من البقاع الزمنية النادرة التي ما زالت حية تنبض في واقعنا، رغم كل ما يعتريها من طوام، لوحة بديعة في زمن بخس.
"الثقافة هي حجر الأساس، الجدار الأخير، الذي يتكئ المرء عليه في حالة الفوضى العارمة".
- جي سي بوويز "معنى الثقافة"
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.