أنارت الألعاب النارية الجزء الأكبر من سماء المدينة، وتوزّع الناس بين مهنِّئ ومهنَّأ، ثم يتبادلون الدوريْن، وقدّم آخرون من الحلوى ما لم يقدّموه في زفاف عزيز، حتى أني رأيت أحدهم يقف على جزيرة وسط شارع عريض، يقدّم حلواه للسيارات على الاتجاهين المتعاكسين بكلتا يديه، فبدا لي كأنه تمثالٌ من الفرح، مفتوحُ الذراعين، فات الإغريقيّين نحتُه. كان ذلك كلّه بعضاً من مظاهر الابتهاج في ليلة انتشر فيها خبر عمليةٍ قُتل فيها بضعة مستوطنين في الأرض المحتلة، على يد شاب فلسطيني واحد، من عامة الناس المدنيين.
يحدث أن يكون الدعم الشعبي لأعمال المقاومة، بما فيه مظاهر الاحتفال بنتائجها، أمراً مُسلّماً به عبر تاريخ "الاحتلال والنضال ضدّه" عند شعوب الأرض كافّة، بل لا يمكن لنا أن نسمّي الاحتلال احتلالاً إن لم يكن على الطرف المقابل لوجوده دعمٌ شعبي، معلن أو غير معلن، للمقاوِم، كي تكتمل أركان القضية. ولكن ما هي المقاومة التي يُجمع الشعب عليها، فرحاً وحزناً وانتفاضاً، حتى وإن لم تستمرّ مدة عملها أكثر من دقائق معدودة، كما العملية النضاليّة المذكورة أعلاه؟
يحلو للإعلام، ولنا أحياناً، أن يسمّي عمليات المقاومة التي ينفذها شخص واحد بالعمليات الفرديّة، وهو المصطلح الذي يفيد بأنّ منفذ العملية لا ينتمي إلى حزب أو حركة أو تنظيم، ولعلّ هذا هو السبب الأوّل والرئيس لانخراط الشعب كلّه في الفرح بنتائج عمله، والحزن على فقده إن فُقد خلال التنفيذ. فمقاومة الأفراد غير المنظَّمين عسكرياً وسياسياً هي منزّهة عن كل هدف سوى التحرر وإخضاع المحتلّ، وبالتالي فهي مقاومة "تدفيع الثمن" عن الاحتلال وأعماله، دون استخدام العمل المقاوم وسيلةً لتحقيق غاية أخرى، وهذا ما يورث لها الالتفاف الشعبيّ الكامل والدائم، رغم مدّتها الزمنيّة المحدودة والقصيرة، وانقضاء أجل منفّذها العاجل. وهذه، بالمناسبة، المقاومة التي يجدر بنا أن نسمّيها "الصادقة" أو "الأصيلة" بدلاً من "الفرديّة".
أضف إلى السبب الأهم، السبب المهم: خبرة الشعوب المحتلة، خاصة تلك التي احتُلَّت زمناً طويلاً، بأبعاد العمل المقاوم العسكري الهادف لمكتسب سياسي في نظام كل حركة أو حزب، والذي إن كان في نشأته وبداياته يشبه العمليات الفردية من حيث شكل التنفيذ وحصيلته وردة فعل الشعب عليه، إلا أنه مع بروز دور هذا التنظيم، وقدرته على التأثير، وشَغله لحيّز لا يمكن إهماله أو تجاوزه لدى المحتل، تبرُز معه قدرته على المساومة، إمّا على أهدافه المعلنة التي وُجد من أجلها، في حالات نادرة، وإمّا على أهدافه الحقيقية، غير المعلنة أو المستجدّة، وهو ما يستوجب معه تغيّر طبيعة شكل العمل النضالي، إن لم يكن تراجعه، أو انعدامه، وأياً كان التغيير، فهو يندرج تحت الاسم المضادّ لدفع الثمن.
ممّا يزيد من رصيد المقاومة الفرديّة عند الشعب أيضاً، هو الثمن الفرديّ المقدم كتوابع (من توابع الزلزال)، سواء في حال نجاح العمل النضاليّ أو عدمه:
نجاح عملية المقاومة الفرديّة يستوجب أعمالاً انتقامية من المحتل ضد المنفّذ وعائلته الأقربين، والذي يتمثل بإجراءات عقابيّة أخطرها هدم منزل المنفذ وتشريد عائلته أو إبعادهم، وفي الحالة الفلسطينية الخاصة، فإن الفلسطينيّ، المقيم واللاجئ، يعرف تمام المعرفة أن الموت أقلّ ضرراً وإيذاء من هذه العقوبة.
وفشل العملية، أو اعتقال المنفّذ حياً، هو النتيجة الأصعب عليه وحده كذلك، فمهما كان حجم "الإضرار" المترتب عليها للمحتل، فإنها لا تساوي الإقامة يوماً واحداً في المعتقل، ناهيك عمّن يقضون عقوداً من الزمان فيه، فيخرجون بعدها، إذا خرجوا أحياءً، إلى حياة لا تفهمهم ولا يفهمونها. المحتلّ يدرك أنها أصعب العقوبات على الإطلاق، لفرديتها المجحفة، وإلا ما كان ليختارها دون غيرها، فانتقاء الانتقام الأوجع ردعٌ واجب، حتى وإن لم يحقّق هذا الردع نفعاً لمرة واحدة خلال تاريخه كله.
مقاومة الأفراد، التي لا تفنى، ترثُ الدعم الشعبي أبدياً، أمّا سواها فهي ترث النتيجة السياسيّة لهدفها من المقاومة، إرث الأخيرة واضح ظاهر مسجّل، غير أنّه يتغيّر بتغيّر النظام والأحزاب والحركات التالية، وعليه فلا "أبديّة" لدعمه، أمّا إرث الأولى فهو باقٍ ما بقي الناس، حتى وإن لم يُكتب اسم صاحبه على باب مكتب فاخر أو على شاشة تلفاز في لقاء مع شخصية مرموقة، كانت يوماً تقاوم المحتل، إلا أن مقاومتها على الأرض توقفت، ولم يتوقف المحتل.
الناس يعرفون، بعاطفةِ كلِّهم وبإدراك بعضِهم، لكنّهم جميعاً يعرفون من هو المقاوم الشرعيّ.. يعرفون من هو المقاوم الذي يرث والمقاوم الذي لا يرث.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.