ربما كانت المنافسة الجديدة بين القوى العظمى على إفريقيا من الموضوعات التي قُتلت بحثاً ونقاشاً خلال السنوات الماضية، وكلمة "الجديدة" في الجملة السابقة تشير إلى التنافس على النفوذ بين الصين والولايات المتحدة وفرنسا وروسيا خلال العقدين الماضيين، مقارنة بالمنافسة القديمة بين القوى الأوروبية التقليدية لاستعمار إفريقيا، والتي بدأت في عام 1885، وكانت نتيجتها استعمار كل الدول الإفريقية بحلول العام 1914، ما عدا إثيوبيا وليبيريا. وهو أمر اصطُلح على تسميته بـ "التدافع على إفريقيا" أو الصراع على إفريقيا.
المصطلح الذي أعاده الباحثون الغربيون للواجهة تحت مسمى (الصراع أو التدافع الجديد على إفريقيا) بعد مشاهدتهم للتوجه الصيني المتسارع نحو الاستثمار في إفريقيا، ومنافسة الصين للقوة الاستعمارية الأوروبية في مناطق نفوذها التقليدية، يشير ذلك إلى قلق متنامٍ وسط الدول الغربية من فقدان هيمنتها القديمة على إفريقيا.
حيث وجدت الدول الإفريقية في الصين شريكاً مريحاً في التعاون الاقتصادي والتنموي والسياسي من حيث قلة الشروط المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية من جهة، ومن ناحية التسهيلات اللوجستية والمالية التي توفرها الصين في المشاريع التنموية التي تحتاجها دول القارة بشدة من طرق وموانئ ومحطات كهرباء ومياه وسدود … إلخ.
بينما تفتقر الدول الأوروبية للقدرة على تمويل أو تنفيذ مشاريع بهذا الحجم الذي توفره الصين.
ربما كان الحافز في كتابة هذا المقال هو الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الصيني الجديد "تشين كانغ"، إلى إفريقيا خلال شهر يناير المنصرم، والزيارات التي تلتها مباشرة من نظيره الروسي سيرجي لافروف إلى القارة، ليزور دولاً ربما يزورها لأول مرة مثل إريتريا.
لتأتي بعده زيارة مندوبة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة ليندا توماس غرينفيلد، إلى غانا وكينيا وموزمبيق.
وهي زيارات الغرض منها التأكيد على وقوف هذه الدول الكبرى بجانب إفريقيا والتزامها بالتعاون الاقتصادي والسياسي والأمني ربما في حالة الروسية أو الدول الغربية.
أهمية القارة السمراء بالنسبة للصين
أما بالنسبة لأهمية القارة السمراء للصين، فهو ما نريد التطرق إليه في هذه المقالة، فإن الأمر مرتبط بسياسة التزمت بها الصين منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي أن تكون الوجهة الخارجية الأولى في مطلع كل عام ميلادي لوزير الخارجية الصيني هي إفريقيا.
حيث حافظ وزراء خارجية الصين منذ عام 1991 على هذا التقليد لأسباب سياسية واقتصادية وأيديولوجية. ومن حسن حظ الصين أن هذا الجهد الدبلوماسي يأتي في وقت تتمتع فيه الصين بقوة اقتصادية وبشرية تفوق تلك القوة التي تمتعت بها الدول الأوروبية التي كانت تسيطر على النصف الجنوبي من الكرة الأرضية خلال الصراع على إفريقيا قبل 140 عاماً من الآن.
لشرح أسباب التقليد الدبلوماسي الصيني الذي يركز على أن يستهل وزير الخارجية الصيني العام الجديد بجولة إفريقية يجب العودة إلى عقيدة الحزب الشيوعي الحاكم في الصين، والذي تتبع وزارة الخارجية نهجه في الشؤون الخارجية كمرجع رئيس لها.
حيث يعتبر الحزب الشيوعي أن الدول الإفريقية كانت أحد أسباب الاعتراف الدولي بالصين في مطلع سبعينيات القرن الماضي، حيث شكلت 26 دولة إفريقية كتلة مقدرة من إجمالي عدد الدول صوتت لصالح الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة كممثل للشعب الصين بديلاً للصين الوطنية "تايوان" التي كانت تتمتع بهذا الاعتراف حتى عام 1971.
بغض النظر عن العوامل الاخرى المساعدة في هذا الأمر، مثل زيارة وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر للصين، وبدء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين والدور الأمريكي في الاعتراف بالصين.
دبلوماسية البنية التحتية الصينية
فإن هذا الأمر جعل قادة الصين يدركون أهمية جعل قنوات التواصل السياسي والدبلوماسي مع الدول الإفريقية مفتوحة على الدوام، ومن هذه القنوات الزيارات رفيعة المستوى لقادة الصين إلى القارة، مصحوبة بما أصبح يطلق عليه بـ"دبلوماسية البنية التحتية" التي ازدهرت بشدة خلال السنوات القليلة الماضية.
حيث يرجع الفضل لذلك إلى مبادرة الحزام والطريق التي يعتبرها الرئيس الصيني مشروعه الخاص والتي بلغت عامها العاشر بحلول العام الحالي.
يمكن القول إن مبادرة الحزام والطريق الصينية، بالتوازي مع الجهد الدبلوماسي لوزارة الخارجية الصينية ونظيراتها وزارات التجارة والصناعات الخفيفة والمؤسسات المصرفية والشركات المملوكة للدولة، يمكن أن تحقق في إفريقيا نجاحات ملموسة في سنوات قليلة لو تم استغلال الفرصة من الجانبين ومعالجة السلبيات وتعزيز مواطن النجاح.
فالقارة الإفريقية هي الأكثر حاجة في الوقت الحالي للبنية التحتية التي تأتي في أولوية عناصر مبادرة الرئيس الصيني، بينما الصين التي خرجت من عزلة فرضتها على نفسها لما يقارب الثلاثة أعوام، في حاجة لتحريك عجلة الاقتصاد الكلي وللعودة لأسواق دخل فيها منافسون آخرون مثل تركيا والبرازيل.
بالعودة لموضوع الجولات الدبلوماسية الصينية، فإن ما يلفت النظر فيها ملاحظة أن الجولات الصينية السنوية لوزراء الخارجية إلى إفريقيا تتسم بالتنوع من ناحيتي البعد الجغرافي والتوجه السياسي.
حيث زار وزير الخارجية الجديد تشين كانغ هذه المرة، على سبيل المثال، أربع دول إفريقية هي مصر والغابون وأنغولا وإثيوبيا، وهذه الدول تتوزع جغرافياً في شمال وغرب وجنوب وشرق القارة، بينما تتوزع سياسياً بين دول عربية وفرانكفونية وبرتغالية وإفريقية التوجه.
وهي بلا شك لفتة ذكية من الخارجية الصينية بمحاولتها العمل مع كل الدول الإفريقية بغض النظر عن توجهاتها السياسية ومحاولة زحزحة هذه الدول تدريجياً لتكون مواقفها السياسية وتوجهاتها متوافقة مع الصين.
اللافت في أسلوب التعامل الصيني مع دول القارة الإفريقية أنه أسلوب يزاوج بمهارة بين السياسة والاقتصاد، حيث يحمل قادة الدبلوماسية الصينية دائماً في جعبتهم عند زيارتهم للدول الإفريقية مشاريع تنموية أو قروضاً جديدة أو اتفاقيات تعاون اقتصادي أو إعفاء من الديون.
على العكس من الزيارات الأوروبية أو الروسية أو الأمريكية، والتي تأتي كروتين سياسي، أو للتعامل مع أمر طارئ، أو كرد فعل للزيارات الرسمية الصينية، ويكون المردود منها مؤتمرات صحفية للمسؤولين تتسم بالطابع الدبلوماسي والفوقية التي مل منها القادة الأفارقة واشتكوا منها في عدة مناسبات كانت آخرها وزيرة خارجية جمهورية جنوب إفريقيا التي انتقدت في جلسة لها مع نظيرها الأمريكي "انطوني بلينكن" العام الماضي طريقة التعامل الأمريكية مع الأفارقة، حيث يأتون لأعطاء الأوامر لقادة دول تعتبر نفسها ذات سيادة.
الدور الروسي في إفريقيا
التدخل الدبلوماسي الروسي في إفريقيا، والذي نشط في السنوات الأخيرة أيضاً، يبدو أنه فشل أيضا في أن يجاري التدخل الصيني من حيث استخدام أساليب القوة الاقتصادية الناعمة.
حيث رافق التدخل الروسي في دول مثل ليبيا ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى استخدام للدبلوماسية العسكرية المتمثلة في قوات فاغنر شبه العسكرية المقربة من الرئيس الروسي وحكومته.
كما مالت موسكو لاستخدام المساعدات العسكرية لتعزيز أواصر التعاون مع الدول الإفريقية، وأبرز مثال على ذلك تقديم روسيا معدات عسكرية إلى حكومة مالي مقابل التقارب مع روسيا على حساب فرنسا، والمثال الآخر هو تدريب عناصر فاغنر للقوات الخاصة في إفريقيا الوسطى.
المشكلة التي تواجه الكثير من دول القارة الإفريقية أن حكوماتها غير مدركة للفرصة المواتية لها للنهوض بالبنية التحتية الضرورية لهذه الدول كشرط أساسي للتنمية المستدامة.
فالصين نفسها لم تكن لتقفز هذه القفزات التنموية الهائلة في أقل من ثلاثة عقود، رغم وجود عوائق مثل عدد السكان الكبير وقلة الموارد مقارنة بعدد السكان، لولا توفر البنية التحتية من كهرباء وطرق وسكك حديدية وموانئ ومطارات دولية… إلخ.
كذلك النمور الآسيوية اتبعت نفس النهج في التنمية التي اهتمت أولاً بالتنمية البشرية والتطور الصناعي والبنية التحتية، ثم حدث بعدها التطور الطبيعي بالتحول الديمقراطي، وهو أمر لا تريد القوى الغربية أن تستوعبه.
طبيعة الدور الصيني في إفريقيا
من المآخذ الغربية والإفريقية على التعاون الاقتصادي والمشاريع الصينية في إفريقيا أن بعضها يتسم بالفساد؛ حيث يتم تنفيذ مشروعات بقيمة أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية، أو أن تكون المواد المستخدمة في المشاريع لا تتمتع بجودة عالية، أو أن تكون القروض مرهونة مقابل أصول سيادية.
وهذه مآخذ من المؤكد أن الدولة الصينية تعرفها جيداً وتضع في الحسبان معالجتها، خاصة مع توجه الرئيس الصيني القوي لمحاربة الفساد في بلاده.
سيكون من المفيد أيضاً تدريب الكوادر الصينية العاملة في مجالات التدريب والتعليم العالي والدبلوماسية على التعامل بتواضع واحترام مع الجهات والأشخاص الذين هم في انخراط مع الصين في إفريقيا.
فالملاحظ بالنسبة لغالبية من يتعامل مع الصين من الطلاب والدبلوماسيين والمبعوثين والتجار والفنيين الأفارقة أن سياسة الدولة الصينية تجاه إفريقيا في غاية الإيجابية والتطور، في الوقت الذي يقوم الكثير من التنفيذيين وإدارات الجامعات والدبلوماسيين وضباط الجمارك في المطارات بتصرفات تناقض سياسة الدولة الصينية فيما يتعلق بتعاملهم مع ضيوفهم القادمين من إفريقيا.
تعلم الدولة الصينية أن غالبية الأفارقة الذين يذهبون إليها للدراسة أو العمل هم من الطبقة المتعلمة والمثقفة المؤهلة لتولي مناصب قيادية في بلدانها في المستقبل، لكن الكثير من الموظفين البيروقراطيين الذين يتعاملون من هؤلاء الضيوف بتعالٍ وعدوانية تجعل الصين تخسر الكثير مما تنفقه لجعل علاقتها مع إفريقيا تمضي نحو أفق أفضل.
الأمر الذي يتوجب معه تعزيز الدبلوماسية الثقافية واختيار دبلوماسيين نشطين في الأعمال الخيرية والاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي من جهة، وتوعية الموظفين البيروقراطيين في الجامعات والمؤسسات والشركات المملوكة للدولة بضرورة النظر بصورة أوسع لمستقبل العلاقة مع شريك مستقبلي مهم.
الشيء الأخير والمهم ذكره هنا أن الفساد الذي يخيم على كثير من الحكومات في إفريقيا يصعب من اقتناص فرصة التنافس الدولي على القارة، فقادة الكثير من الدول الإفريقية لا يحرصون على إنشاء آليات الحوكمة والإدارة الرشيدة ومكافحة الفساد في تنفيذ العقود.
وهنا يبرز الدور الغربي أكثر من الدور الصيني في تدريب الكوادر الإدارية والقيادية في إفريقيا على تطبيق ممارسات أفضل في الإدارة والحكم. وهو ما يجب على الصين أن تبادر في الانتباه له ومعالجته بنفس السرعة التي تقيم بها شراكات وتعاوناً مع دول الجنوب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.