"الألم حتمي الحدوث، لكن المعاناة اختيار".. سمعت هذه الجملة في أحد محاضرات الدكتور كريم راغب، الطبيب النفسي، ومن الوهلة الأولى عصفت بذهني هذه الجملة، وأخذتني إلى رحلة من التأمل في معانيها واكتشاف مقاصدها، فتذكرت أحداثًا عصيبة حدثت لي، وأشخاصاً خاب أملي فيهم، فإذا بهذه الجملة تهون آثار هذه الأحداث وتخفف من شعور خيبة الأمل في الأشخاص.
ومنذ ذلك الحين جعلت هذه الجملة ميزاناً للأحداث الضاغطة من حولي، فتحسنت صحتي النفسية، ووضحت رؤيتي للأحداث، وخلت النفس من الضبابية وظلمة القلق فيما سأواجه، حتى وإن كان الطريق نفقاً مظلماً فقد أصبحت أختار العين التي أرى بها، أختار عين مقصد هذه الجملة (الألم حتمي الحدوث لكن المعاناة اختيار).
"الألم يصيب الجميع، لكن المعاناة اختيار البعض".. إذا تأملنا هذه الجملة نجد أنها تحمل متغيرين: الأول (الألم)، وأُشير إليه أنه "حتمي الحدوث"، أي إنه سيحدث مهما بلغ احتياطك وحذرك، فالمكون الأساسي له غيبي من القدر لا نعلمه، كالابتلاءات من الله بتضييق الرزق، عدم التوفيق، الإصابة باضطراب نفسي أو مرض جسدي.
وبالتأكيد سيتألم الإنسان لحدوث هذه الأحداث، لكن طريقة تفكيره في الألم هي التي تصنع المعاناة أو لا توصله إليها، وهنا يأتي تفسير المتغير الثاني (المعاناة)، وأُشير إليها بأنها "اختيار"، أي من صنع الفرد ومحض إرادته ومن نتاج أفكاره بقصد أو دون قصد، كما أن المعاناة تعني استمرارية التفكير السلبي في الشعور بالألم بما يسميه المتخصصون في علم النفس الأفكار السلبية التلقائية.
الأفكار السلبية تساهم في خلق المعاناة
تحدث لنا جميعاً أحداث تشعرنا بالألم، وهذا شعور طبيعي، لكن بينما نتفاعل مع الحدث، ينتج العقل أفكاراً سلبية تلقائية، كرجل خرج من بيته وصدمته سيارة، وبينما يتألم من الحدث الذي هو حتمي الحدوث، ينتج عقله مجموعة من الأفكار التي يحدث نفسه بها مثل "لماذا تحدث معي أنا هذه المواقف الصعبة؟ أنا شخص سيئ الحظ، الناس ينظرون إليّ ومنهم من يسخر مني، هذا اليوم سيئ، كنت أعلم أنني سأعاني في حياتي، لماذا لا أمتلك سيارة مثل كثير من الناس؟ متى ستنتهي الأحداث المؤلمة؟ متى سأتخلص من مشاكلي اليومية؟".. كل هذه الأفكار السلبية وأكثر والتي هي محملة بالكثير من أخطاء التفكير، ينتجها العقل تلقائياً عند تفاعل الفرد مع الحدث المؤلم، فتصنع له المعاناة.
الألم ابتلاء لكن القبول به يبعد المعاناة
(إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ)، يحث الله سبحانه وتعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة على مواصلة الجهاد، ويبرز لهم جوهر الاختلاف بينهم وبين المشركين، فجميعهم يتألم، لكن رجاء المؤمنين وجزاءهم يختلف عن المشركين، فالمؤمنون يتألمون في المعركة فيكون نتاج ذلك إما النصر أو الشهادة، أما المشركون فمصيرهم الهلاك، وإن كان هذا المعنى القرآني من رب العزة يستهدف الجهاد في المعركة، فالأولى والأقدر للمسلم أن يعممه على حياته ويكون منهجاً له في الرضا بأقدار الله وقبولها والبحث عن الحكمة من هذا الحدث وآلامه، ويرجو من الله الأجر بالصبر على الألم والرضا بالقدر.
كما أن هذه الآية العظيمة تشير إلى أهم الحلول النفسية التي ينصح المختصون أن نفكر فيها عند المرور بموقف مؤلم، مثل: "لست وحدك من يتألم – قبول الألم – التغيير بعد الألم".
من رحم الألم تصنع المعجزات
نعرف جميعاً قصة غانم المفتاح، هذا الشاب القطري الذي شارك في كأس العالم 2023 وكان علامة بارزة في حفل افتتاح المونديال، فهو مثال حي فريد يعيش بيننا لشخص تقبل ألم أن يحيا بلا أرجل، ولم يسمح للمعاناة أن تسيطر عليه، فتضعف عزيمته وتقعده وتقيده عن الحركة وتجعله حملاً على من حوله، فكَبُر وحصَّل العلم ومارس معظم ما يمارسه الأصحاء، بل إنه أنجز ما لم يستطع أن ينجزه البعض.
فهذا الشاب غيّر مفهومي عن القعيد، فالقعيد ليس من لا يستطيع الحركة، بل إن القعيد من تقعده عزيمته وفكره على أن يحيا كريماً، فهو بالمتاح من الحركة لديه يمشي ويركض ويسبح ويقود السيارة والدراجة ويمارس هوايات تصعب علينا نحن بعض الأصحاء ممارستها.
بالتأكيد هذا الشاب لو كان استسلم للألم الذي هو حتمي، حدث ويحدث له كل يوم، لأصبح فريسة للأفكار السلبية التلقائية عند مروره بأي حدث فيه تحدٍّ له، فتوصله للمعاناة التي كانت ستقعده، ويكون كأنه لم يكن ولم يُخلق، وحملاً على نفسه ومن حوله.
الألم بين القبول والتغيير
للوهلة الأولى سنجد أنه من الغريب أن يحدثنا أحد عن قبول الألم، فبالتأكيد لا أحد منا يختار أن يتألم ويأنس بوجود الألم، لكن رفضك لفكرة وجود الألم في حياتك سيوصلك للمعاناة سريعاً، أما قبول الألم عند المرور بأحداث الحياة الشاقة بالتأكيد سيخفف من آثاره، وسيجنبنا الوصول إلى المعاناة التي تعني استمرار زيادة حدة الشعور بالألم.
لذلك نريد أن نصل بالقبول إلى قبول ما يحدث لنا من آلام تتعلق بالأحداث والأشخاص، وإن كان في شكل توقع وحذر وحيطة واستعداد، بالتأكيد كل ذلك سيساهم من تخفيف وطأة الألم عند حدوثه، بل يمتد القبول إلى تقبل طبيعة ما تحمله الحياة من آلام وصدمات والأقدار من محن وابتلاءات بنفس راضية مطمئنة لحكمة ما يحدث.
الألم حتماً سيعقبه تغيير؛ إما أن يقل تدريجياً ويتعافى، وهنا حكمة أن أتجهز وأستعد أو أتجنب حدثاً أكبر، أو أن التغيير سيحدث لأفكاري عما يحدث من حولي، فأنظر للألم أنه حتمي الحدوث، أما المعاناة فاختيارنا.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.