نشأت الفلسفة خارج الإطار الأكاديمي، وكانت الأكاديمية طوراً لاحقاً في صيرورة الفكر الفلسفي، ورحلته الاستكشافية في تربة الإشكاليات والتحديات الناشئة من مواجهة الإنسان. مع كونٍ لا يسوده سوى الصمت، كما أنَّ الرغبةَ المُتطلعة لتحديد ما يكونُ مصدراً للأفعال البشرية، هل هي صنيع إرادة الذات المُستقلة، أو تابعة لقوة مُتعالية؟
قد أضافت منطقةً جديدةً لأرض الفلسفة إلى جانب ما ارتاده الفلاسفة الأوائل من خلال الاجتهاد بشأن العنصر المؤسس للتكوين. كل ما تبعَ ذلك المسعى من ظهور المدارس والمذاهب الفلسفية لم تكُن حاضنته مدارج الأكاديمية، بل الفضاءات المُحايثة للبيئة العامة، وما تفوقت فيه الحضارة الإغريقية هو إسناد الحكمة إلى الصداقة، وبهذا انتهى عهد الحكيم على النمط الشرقي، حسب تعبير محمد آيت حنا، وهو يقولُ في كتابه "الرغبة والفلسفة" إنَّ ما قامَ به الإغريقُ كان بمثابة إعادة توطين لحركة الفكر، ضمن أرضية مُحايثة.
وبالتالي قد غابت سلطة المُتعالي، وانتظمت العلاقة المعرفية على خط أفقي، إذ كان النقاش يدورُ بين الأصدقاء، ما يعني أنَّ التفلسف لم يعُدْ من حظوة النُّخبة دون غيرهم، بل يحق لمن يريد الانخراط في هذا المُعترك أو مُصاحبة العقول التائقة إلى المعرفة، وما يُصرح به سبينوزا بأنَّ ما من شيء في الطبيعة أنفعُ للإنسان من إنسان يعيشُ على مقتضى العقل، ليس إلا امتداداً للروحية الإغريقية.
ومن الملاحظ أنَّ النشاط الفلسفي يتصاعدُ زخمُهُ في بيئة غير أكاديمية، ويمكنُ تفسير ذلك بأنَّ الفلسفة تستمدُ حيويتها من الارتحال، بالمقابل يحل عليها الضمور إذا ضاقت عليها مساحات الحركة والجدل. فالرحلةُ بدون التقيد هي قابلة الفكر، فما تراه في الأكاديميات وكراسي الفلسفة ليس إلا قشوراً للحكمة وطيفها، أما الحكمة الحقيقية فتعتذر عن الحضور إلى هذه الأمكنة، حسب رأي شوبنهاور، لذا "فإن قلائل جداً من الفلاسفة كانوا أستاذة في الفلسفة، وأقل من ذلك أستاذة الفلسفة كانوا فلاسفة".
وعليه فإنَّ الفلسفة لن تعيشَ عصرها الذهبي في المؤسسات الأكاديمية، وبدلاً من أن تحققَ اختراقاتٍ نوعية على كنفها، بدأت محاولات لنحت البدائل لمهنة التفلسف. وضجت الخطابات بمقولات تبشر بنهاية صلاحية الفلسفة، غير أنَّ هذه المنشورات الرائجة في الأوساط الأكاديمية لا تنقصُ من قيمة ما يُعدُّ حجر الزاوية في عملية اكتساب المناعة النفسية والحرية العقلية.
جغرافيا مرنة
يزدهر الفكر في جغرافيات تتميز بالمرونة والانفتاح على المُغاير، ولا توجدُ على خريطتها حدود صارمة، تفصلُ بين الداخل والخارج؛ لذا فإنَّ الشارعَ كانَ المكانَ الأمثل لمناظرات فكرية إبان اللحظة السقراطية، ومن ثمَّ اقترنت الفلسفة بالمشي في عهد أرسطو، كما استقبل زينون أتباعه في الرواق، وأصبحت الحكمة مُطعمة بالمرح في حديقة أبيقور. يُذكر أنَّ ستيفن جوبز قد أبدى استعداده للتنازل عن جميع خبراته التكنولوجية، مقابل قضاء أمسية على مأدبة أبيقور.
ومما لا شك فيه أنَّ المقاهي في العصر الحديث قد أمست منصةً للحوارات الفلسفية، لأنَّها تقعُ في دائرة الأمكنة المرنة. فقد أينعت الفلسفة الوجودية مفاهيمها بمقهى "كافي دي فلور"، فإنَّ ألمعية فتوحات سارتر الفكرية تكمن برأي سارة بكويل في تحويله الفينومينولوجيا إلى فلسفة، عن كوكتيلات المشمش، وعن الجرسونات في المقاهي التي ارتادها.
الأمر الذي يؤكدُ أنَّ النهضة الفلسفية تتطلبُ وجودَ أعرافٍ، منها التنفس في الفضاء العام، والجرأةُ في إعادة النظر بالمُسلّمات، وتثوير المفاهيم، ومن نافلة القول إنَّ الأولوية يجبُ أن تكون للمهمة الأخيرة "مايهم ليس إحداث ثورة في الفلسفة، بل جعل الفلسفة ثوريةً من جديد". بدوره يشتغلُ المؤلف الأمريكي كريستوفر فيليبس على هذا المبدأ التنويري في كتابه الموسوم بـ"مقهى سقراط"، حيث يتناول الفلسفة بنكهة مختلفة.
وقد يذهب بك الظنُّ بأن الغرض من مفردة العنوان قد يكون استقطاب الجمهور، وعددٍ أكبر من القراء، لكن ما يقومُ عليه الكتاب من الترتيب للمحاورِ يكشفُ عن تمثله التام من حيث الشكل والمضمون لروحية سُقراطية.
وبالطبع لا يمكنُ استيعاب خريطة أي قطب فلسفي دون عملية التقمص لشخصية الفيلسوف، ومعايشة تأملاته، لدرجة يصير المُتابع رائياً للوجود كما يراه هو، وفق تحديد شارل مالك لمطلب التفلسف. ومما لاشك فيه أنَّ الانفكاك هو حلقة تالية في الرحلة المعرفية، لأنَّ ما يقدمهُ كل فيلسوف ليس إلا جزءاً من أطلس الفكر.
وما يجعل سقراط حاضراً على مأدبة الفلسفة هو تحديه للخمول العقلي، ورفضه لإلغاء عنصر الإمكان في ممارسة الحياة؛ لذلك فإنَّ الحياة التي لا يتمُ فحصها ونقدها هي نسخةُ لا تجدرُ بالعيش بنظر سقراط. ومن المعلوم أن الإنسان بطبعه يميلُ إلى المُعتقدات الجاهزة، ويرتاحُ بالأنماط السائدة من التفكير وأسلوب العيش؛ لذلك لم يستغرب أرسطو من تعلق الجموع بالإفراط في اللاعقلانية، وأنَّ عدداً محدوداً من الناس يمكنهم تحمُّلَ ما تكلفهم مُخالفة هذا التوجه من الثمن والعناء.
فضيلة التواضع
يكمنُ تفردُ شخصية سقراط في بساطته، وبصيرته بحقيقة ما هو جوهري في المسعى الفلسفي، فهو بخلاف السُّفسطائيين لم يعجبهُ تقديم وصفاتٍ معرفية بصيغة المُحاضرات، بل كان يكتفي بطرح الأسئلة. يقول فيليس إنَّ ما تحدثَ عنه السفسطائيون من الفضيلة والتعليم والتفوق الإنساني قد جسّده سقراط في حياته، واللافت في شخصيته عدم الانسياق مع المُشاحنات والمُهاترات، فكان رده على من ينعته بالسوء يختصره بكلامه "كل ما يُقال عني لا أجده في نفسي"، وكان يجوبُ في شوارع أثينا مُتملياً الأغراض الباهظة الثمن المعروضة للبيع، وهو يرددُ كم من حاجة لستُ بحاجة إليها، في الواقع ما يتكبدهُ الإنسان المُعاصر من المعاناة الناجمة من تصاعد سقف مُتطلباته المادية، يمكن التعافي منه إذا كان الفهم حاضراً لمغزى مقولة سقراط. لأنَّ الأشياء الخارجية كلها لا تفيد في توفير السكينة الداخلية، وقد تكون عاملاً لتفاقم الشعور بالإرهاق النفسي والاستهلاك الروحي.
وما وقع ضمن لائحة أولويات فيلسوف أثينا هو سحب الستار عن الجهل المتستر بغطاء العلم، فبرأيه فإنَّ الجهل ليس مضراً، بل الجهل الذي يعتبر ذاته علماً، ويطلقُ الأحكام، هو ما يضللُ العقول ويزيدُ الطينة بلةً، يكتشفُ المؤلفُ من خلال اقتفاء أثر سقراط أن المصادر التي يمكن أن تنهل منها المعرفة متعددة، كما أنَّ المرونة في التواصل مع المعطيات الفكرية توفرُ على المرء الإصابة بالجمود العقلي. لهذا تنفتحُ مفاصل الكتاب على آراء الفلاسفة والمُفكرين من مشاربَ وعصورٍ مُختلفة.
وتتمدُ خريطة المعرفة المشرعة على من يستهويه التجوالُ في أنحائها. ومن النصائح التي يسديها ساندرز يرس على السالك لهذا الدرب النقش على كل جدار من جدران مدينة الفلسفة، والاستمرار في التساؤل بشأن الظواهر التي يقع عليها النظرُ. لأنَّ الغرام بالحقيقة يتطلبُ التساؤل فيما لا يتمخضُ القبولُ بما يختزنهُ صندوق العقل سوى التحجر.
"إذا كنت تطمحُ لمتعة واطمئنان الروح فآمن"، يتسعُ حزام النقاش في مقهى سقراط للعديد من المواضيع، بدءاً من تقديم لمحات عن حياة سقراط وأسلوبه في إثارة الأسئلة المُزلزلة للأرضية المُغلقة على التعود، والتنميط. وصولاً إلى مفهوم الوطن والصداقة وليس نهاية بالافتراضات التي تفتحُ مجالاً للحديث عن إمكانية الحياة خارج كوكب الأرض.
كما يترشحُ خلال الحوارات سؤال عن ماهية العالم، وهذا ما يقود بالكلام إلى كانط، وإيمانه بوجود العالمين الظاهري والحدسي، فالأخير يقع وراء عالم الزمان والمكان والعلة والمعلول، وهو عالم مجهول لا يمكن معرفته، بينما العالمُ الأول قابل للمعرفة من خلال الحواس، ويمكن استيعابه بالعقل.
ولا يغيب رأي لايبنتز في هذا السياق، فكان يذهب إلى احتمالية حدوث عدد لا نهائي من العوالم، فأخذ الإله هذه الإمكانيات كلها بنظر الاعتبار قبل خلق العالم الفعلي، وهو "أفضل عالم من العوالم الممكنة الحدوث"، غير أنَّ ما يهمُّ أكثر هو الالتفات إلى فهم الذات؛ إذ تعتقدُ ريكي، وهي شاعرة تشارك في حلقة سقراطية، أنَّ الذات ليست شيئاً يتم تعريفه، بل يمكن الإفصاح عنه، وإدراك الذات يكون من خلال الأفعال والكلام، وإذن هي عبارة عن صيرورة متواصلة.
ومن الأهمية بمكان العودة إلى سقراط، وتأكيده على ضرورة التناغم الذاتي، فقد كان يفضل الوقوف على خطٍّ مخالف لأكثرية الناس، على أن يكون فرداً متناقضاً مع نفسه.
مباهج التفلسف
تنبّأ الكثيرُ من المتابعين بأفول الفلسفة، وكان جون ديوي يرى أن الخطاب الفلسفي لم يعد مقنعاً، وليس أداةً ناجعة للتعامل مع القضايا الخطيرة في الأزمنة الحديثة. وفي الواقع، فإنَّ أزمة فقدان المصداقية والاقتناع ضربت الحقول المعرفية برمتها، بما فيها العلوم الدقيقة. وما تمتازُ به الفلسفة وسط هذه الدوامات هو الرشاقة في تفجير الشعور بالبهجة، إذ وصف نيتشه الفلسفة بأنها علمُ مبهج.
وما يجعلُ العودةَ إلى هذا العلم المفرح ضرورية، هو طبيعته المُناهضة للحس العام، ما يعني أن الطريق نحو الاكتشافات والبحث عن الوقائع المُحفزة لإعادة النظر في الدلائل يتمددُ مع الفلسفة.
وما قام به كريستوفر فيليبس، من الانتقال بالفلسفة إلى متاجر الكتب والمَطاعم ومساكن كبار السن والسجون، يعدُّ ضخّاً للدماء في أوردة الفكر، وبالطبع هذه العملية تفوق المناهج الأكاديمية أهمية وقيمةً؛ لأنَّ المرء قد يتعلمُ مهارة القراءة والحساب والكتابة في الأكاديمية، لكن ما يغيبُ في البيئة الجامعية هو مهارة التفكير، ونحن بصدد المقارنة بين التفلسف في فضاءات عامة ومناهج مقررة في الأكاديميات، لا مناص من سؤال ماذا تضيفُ الجامعات والأكاديميات على المستوى العقلي؟
والأغرب في الموضوع أن تصاعُد عدد الجامعات وحاملي الألقاب العلمية ما زاد الأمرَ إلا بؤساً، وما عمّق إلا انتكاسة العقل، إذن فمن حسن حظ الفلسفة أنها ليست ضمن المقررات الدراسية في جامعاتنا، وإلا لتحولت إلى قطعة أثرية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.