الرشيد في المفهوم المتعارف عليه، حسب المعاجم التاريخية والحضارية، يجري تداوله، كركيزة أساسية تشي إلى رصانة وحماية دعائم الحكم والإدارة في الأمور المتعلقة بشؤون الرعية وسيادة الحكم، من الشفافية والعدل والالتزام بمبدأ تغليب المصالح العامة.
في اللغة الرشيد؛ من أصل رَشَدَ يَرْشُدُ رُشْداً وراشداً باسم الفاعل، جاء في الذكر الحكيم "أولئك هم الراشدون" أي هم المصلحون يستنيرون الدرب بنور الحق وهم مستقيمون عليه، أما الرشيد فصفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت، يقال؛ إنه شخص رشيد أي عاقل هادئ وحاذق في أعماله، والنبيُّ لوط خاطب قومه مؤنِّبا إياهم "أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ"؟ وهذا دليل على انحلالهم من المروءة والفضيلة.
بعيداً عن الاشتقاق اللغوي، "الرشيد" مفردة تحمل دلالات ومعاني أكثر عمقاً في المعاجم السياسية والإدارية، وكثيراً ما تُستخدم لتكون المفردة صفةً متلازمة تُنسب غالباً إلى الحكام المتصالحين مع الرعية، لكن لم يكن أحدٌ من الأمراء والخلفاء أكثر استئثاراً وتميّزاً بصفة الرشيد مثل أحد الأمراء العباسيين بل أدهاهم وأشهرهم وهو هارون أبو جعفر بن محمد المهدي بن أبي جعفر المنصور، وعندما تناقش جماعة مع أخرى حول الرشيد يتبادر إلى الذهن هارون، حيث لُقِّب بالرشيد لجملة أسباب، في مقدمتها ذكاؤه الحاد وفطنته وبراعته في عملية الحكم، صار حوكمة متقنة ليُضرَب به المثل، بالمحصِّلة فإن الرشيد إنما صفة مشبّهة لهاورن لازمته لحنكته وكِياسته، وهي أصحبت كنية له وليست اسماً لأحد من سُلالته.
هارون الرشيد يُعد الشخصية الأكثر جدلية موصوفة بصفات متناقضة عبر التاريخ، فما بين نظرة تُصنِّفه على أنه كان خليفة مُقسطاً وحامياً للسيادة، حقق الأمن والأمان للرعية، وأصلح شؤونهم، وبسط العدل؛ أما النظرة الأخرى فتصفه في بعض الروايات والأخبار بأنه شغوف ومحب للهو، متلذذ بشهواته، وكان قاسياً مع خصومه، كما يعتبر أشهر الخلفاء العباسيين، وأكثرهم حضوراً؛ إذ ورد ذكره في المعاجم الأجنبية كالحوليات الألمانية في عهد الإمبراطور شارلمان التي ذكرته باسم "ارون" والحوليات اليابانية والصينية التي ذكرته باسم "الون".
أما المصادر العربية فقد أفاضت الكلام عنه لدرجة أن أخباره قد امتزجت فيها حقائق التاريخ بما جاد به خيال الرواة، ولا سيّما التحفة الأدبية "ألف ليلة وليلة" التي صورته بالخليفة المسرِف في الترف والملذات والشهوات وقصته مع عم إبراهم والجارية الفاتنة أنيس الجليس خير مثال على هذا.
ثمة روايات وروايات تُمجّد هارون الرشيد لاهتمامه بالإصلاحات الداخلية والتطورات التي شهدها نظام حكمه على جميع الأصعدة؛ إذ شيَّد معالم الحضارة، وفي عهده أضاءت القناديل لأول مرة الطرق والشوارع، كما أنه اعتنى كثيراً بالزراعة ومأسَسة نظامها، فَبنتْ حكومته الجسور والقناطر الكبيرة. يشار إلى أنه كان أول خليفة طابت له لعبة الشطرنج من بني العباس، إبان عهد ازدهرت بغداد في شتى المجالات لتصبح مركزاً مستقطباً للمعرفة، والثقافة، وشهدت التجارة توسعاً ونمواً كبيرين، والعلوم والفنون بشتى أنواعها كذلك، لم يجتمع المؤرخون والباحثون على أي شخصية كما اجتمعوا على هارون الرشيد في وصفه براعي الحضارة وحامي سيادتها وأركانها، وكان يحب أهل العلم والأدب، ويعظّم حرمات الدين، كارهاً الجدال والكلام، واتسعت رقعة أركان الدولة العباسية العاصمة الإسلامية واستتبّ الأمن وعمَّ الرخاء وكثر الخير بما لا نظير له.
وفي العصر الجديد تتداول مفردة الرشيد وسيلة رائجة لتصحيح مسار الحكم والإدارة في أروقة السياسة، فلا أحد ينكر أن البلد في العهد الجديد أحوج ما يكون الى إرادة مخلصة وحكم رشيد؛ إذ يؤكد الباحثون والخبراء وحتى الساسة والأحزاب ضرورة وأهمية تطبيق مبادئ الحكم الرشيد لتغليب المصلحة العامة، وتحقيق الديمقراطية والمساواة، وتعزيز المشاركة واحترام الحريات.
كان الرئيس العراقي السابق برهم صالح قد رفع شعار "الحكم الرشيد " وردَّد مراراً وتكراراً في خطاباته ومقالاته أن البلد بحاجة ماسّة لحكم رشيد، وأنه قد ولَّى عهده دون النجاح والفلاح في تنفيذ الشعار!
على القول المأثور، فإن لكل شخص نصيباً من اسمه، فإن رئيس الجمهورية العراقي عبد اللطيف رشيد له نصيب من اسمه وهو يعرف على أنه مُتسم بالمرونة والهدوء حتى حيال الانتقادات التي وُجهت إليه بشأن الأخطاء لغة وأداءً في تلاوة الخطابات والأعراف والبروتوكولات الرئاسية والدبلوماسية، كما أنه يتمتع بكفاءات وخبرات وهو صاحب سيرة ذاتية مهنية بحسب موقع رئاسة الجمهورية، ومن المبكر الحديث عن عهده وتقييمه، لكن ليس بالضرورة أن يكون له نصيب من اسم جده "رشيد".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.