أصبحت سمة العقل العربي الإيمان بنظرية "المؤامرة" التي تريح العقل من عناء البحث عن الأسباب، وتغني المراقب عن نقد الذات، وتغذي الشعور بأننا ضحايا لأعداء متآمرين، لولاهم لكان وضعنا أفضل بكثير، ولا يحتاج من يطرح تفسيراته للآخرين بناءً على تلك النظرية عناءً كبيراً لإثباتها.
فالتدخلات الخارجية حتى وإن كانت ردود أفعال لأحداث محلية تغذي تلك النظرة وتريح العقل العربي من عناء النظر في المرآة وتشخيص الحالة، فلا تزال طبقة كبيرة من الشعوب العربية، بل وأحياناً المثقفون وقادة الرأي، يتحدثون بحماس عن نظرية المؤامرة، في إثبات الأحداث المتتابعة التي تمر بها بلداننا العربية، لكن محاولة إثبات هذه النظرية وربطها بالأحداث التي تمر بها أوطاننا تؤدي إلى نتيجة معاكسة سلبية، من خلال بث اليأس في نفوس العرب، وإلصاق صورة العنصرية بهم، رغم ذلك يرفض البعض أن "نظرية المؤامرة" هي التي تعيق التفكير الحر المبني على الحقائق، لأن هذا لن يمنحهم راحة الإحساس بأنهم ضحايا، وبأنهم يستحقون الشفقة.
نظرية "المؤامرة"
أمثلة على اقتناع البعض بنظرية المؤامرة من الماضي القريب
أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001م التي هزت العالم وأطلقت حقبة جديدة من علاقة الغرب بالعالمين العربي والإسلامي، فلو تنقلت في العالم العربي سائلاً عن هذه الهجمات لدهشت من كم المؤمنين بنظرية أن الولايات المتحدة نفسها أو حليفتها إسرائيل هما من قامتا بتلك الهجمات لتبرير الحرب ضد الإسلام والعالم العربي.
ومثال آخر على كذلك "بروتوكولات بني صهيون"، حيث يأتي التساؤل عمن كتبها وكيف نشرت وأنها سبب كل المصائب!! وكذلك لقاء السفيرة الأمريكية "أبريل جلاسبي" التي تم تعيينها في منصبها بالعراق عام 1989م، حيث يدور الحديث عن التقائها بالرئيس العراقي الأسبق "صدام حسين" قبل الغزو العراقي بالكويت، وكأنها كانت مؤامرة لدخول الكويت، وتصريح "كوندوليزا رايس" وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس الأمريكي "جورج بوش" عن "الفوضى الخلاقة"، حيث صرحت أن الوضع الحالي ليس مستقراً، وأن الفوضى التي تنتجها عملية التحول الديمقراطي في البداية هي "فوضى خلاقة"، ربما تنتج في النهاية وضعاً أفضل من الذي تعيشه حالياً، وهو توصيف ينطبق حتى على الثورة الفرنسية التي قامت قبل بضعة قرون واستمرت لسنوات عديدة قبل أن ترسي معالم الديمقراطية.
الثورات بسبب الانهيار السياسي والاقتصادي ليست نظرية "المؤامرة"
لا يوجد لدى مروجي نظرية المؤامرة للربيع العربي أية إجابة عن آليات التنفيذ التي يعتمدها الغرب في خلق تلك الثورات، أو في الفائدة التي جنتها الدول الغربية حتى الآن من هذه الفوضى، كما أن هناك تجاهلاً مخلاً بالحقائق لرغبات الشعوب، وإحباطاتها ومعاناتها مع كم الفساد والديكتاتورية الهائلين اللذين ولدا ضغطاً متزايداً لمن يحتج، مثل "محمد بوعزيزي" التونسي الذي أقبل على إشعال النار في نفسه نتيجة للضغط النفسي بسبب أوضاعه المعيشية، وأن ما قام به تصرف عفوي.
إن الأخطاء السياسية، والتمزق الفكري والديني والطائفي، وانتشار ثقافة رفض الآخر وتكفيره، وغيرها من الأمراض الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، التي تلعب دوراً أكبر بكثير من قدرة أية قوة خارجية على إحداث ضرر مماثل في بلداننا، وإن التحدي الأكبر في علاج أي مرض أو حل أي مشكلة هو دقة التشخيص، فإن تمكنا من فعل هذا بناءً على تفكير صحي يستند إلى رؤية الواقع ومعطياته دون اللجوء إلى نظرياته المظلمة، حينها ستصبح إمكانية الحل أقرب إلى أيدينا من السابق.
المقتنعون بنظرية المؤامرة هم من يصنعونها، وينسجون خيوطها، ونتيجة لغليان الشعوب المقهورة من الظلم والقهر والفساد والفشل الدائم في التنمية والعدالة الاجتماعية والحريات، وخروج الانتفاضات العفوية الصادقة المؤمنة بالتغيير عند البسطاء، تحولت إلى مؤامرة كبرى عند من يستطيعون توجيه دفة الأمور، والتحكم في حركة الجماهير من خلال ظهور الإعلام الموجه والنشطاء المأجورين، والحركات الدينية الانتهازية، والنخب الثقافية والسياسية التي أدمنت التبعية للخارج، والارتزاق من تجارة الأوطان.
إن الحقيقة الغائبة أن الشعوب كانت ناقمةً على أوضاعها، ومستعدة للتضحية بالحياة من أجل التغيير، بينما النخب كانت مسترخية وهانئة لم تكن مستعدة لقيادة التغيير، لذلك خرجت الشعوب، سواء بإرادتها، أم من خلال تحريك من يملك خيوط المؤامرة، المهم هنا أن التاريخ يقول إنها خرجت بالملايين، أما السر وراء خروجها فمتروك لحين ظهور حقائق الأمور في المستقبل القريب أو البعيد.
إن النخب بكل تنويعاتها من الإخوان إلى اليساريين لم يكونوا جاهزين للتغيير، ولم يكونوا مستعدين للقيادة، لذلك انشغلت النخب بالغنائم، والحصول على النصيب الأكبر من الوطن الغنيمة، والثروة الغنيمة، والمناصب الغنيمة، لذلك نلاحظ أن الصراعات بين بعض من تصدروا "الانتفاضات" في جميع الدول العربية التي شهدت هذه "الانتفاضات" كانت حول المناصب السياسية.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.