أعلن الرئيس أردوغان قبل أيام أنَّ الانتخابات العامة في تركيا لعام 2023 ستجري في 14 مايو/أيار المقبل، برسالة تقول: "بعد 73 عاماً، في اليوم نفسه من جديد …".
هذا التصريح إلى جانب كونه متوقعاً، قد أثار بعض التساؤلات. وأصبح موضوع تطبيق القانون الانتخابي الجديد من عدمه على الانتخابات الجديدة، وهو الذي جرى تبنّيه في أبريل/نيسان من العام الماضي (لأنَّه يتعين مرور سنة واحدة على الأقل منذ قبول القانون) هو موضوع النقاش الرئيسي في البلاد، جنباً إلى جنب مع النقاشات بشأن الولاية الثالثة لأردوغان في سُدة الرئاسة.
لماذا 14 مايو لإجراء الانتخابات الرئاسة التركية؟
أود أن أضع كل هذه المحاججات جانباً، وأريد أن أتحدث عن أهمية انتخابات 14 مايو/أيار 1950، وهو التاريخ الانتخابي الذي حدده أردوغان، والذي فاز فيه الحزب الديمقراطي بالانتخابات بأغلبية واضحة على حزب الشعب الجمهوري، وعملية حكم الحزب الديمقراطي، وزعم حزب العدالة والتنمية أنَّه وريث الحزب الديمقراطي.
كانت نهاية الحرب العالمية الثانية تعني عودة الشبح القديم لتركيا: التهديد الروسي، أو آنذاك التهديد السوفييتي. فعقب انتهاء الحرب بانتصار الحلفاء بعدما صاغ عصمت إينونو بمهارة سياسة البقاء خارج الحرب، لم تكن تركيا في الطرف الخاسر، لكنَّها لم تكن في الطرف المنتصر أيضاً.
وكان لدى تركيا بعد الحرب تهديدان مُتصوَّران رئيسيان من الاتحاد السوفييتي، وهو أحد المنتصرين في الحرب: المطالبة السوفييتية بأن يكون للاتحاد كلمة في ما يخص المضائق، وضم محافظتي قارص وأرداهان.
وطرح السوفييت علناً المطالبة بحقوق في هاتين المنطقتين، وسرعان ما بدأ هذا الوضع في دفع تركيا إلى المعسكر الغربي في مواجهة السوفييت. وفي وضعٍ كهذا، كان يتعين مراجعة النظام السياسي للحزب الواحد في تركيا بهدف كسب تعاطف الحكومات الغربية الديمقراطية.
من ثَمَّ، سُمِحَ بتأسيس أحزاب سياسية جديدة للمرة الأولى في تركيا، وتأسس الحزب الديمقراطي تحت قيادة جلال بايار وعدنان مندريس وفاتن روستو زورلو ومحمد فؤاد كوبريلي ورفيق كورالتان، الذي غادر حزب الشعب الجمهوري. قدَّم إينونو موعد الانتخابات العامة الأولى في تركيا ضمن نظام التعددية الحزبية؛ لإدراكه أنَّ الحزب الديمقراطي بدأ يلقى تجاوباً بين الناس، ونجح بذلك في البقاء في السلطة، تاركاً الحزب الديمقراطي خلفه بفارق كبير في انتخابات عام 1945، ودون تحضير كافٍ. لكن بين عامي 1946 و1950، تمكَّن مديرو الحزب الديمقراطي، الذين استطاعوا قراءة المجتمع والسياسة جيداً، من إجراء عملية تحضير ناجحة للغاية لانتخابات عام 1950.
كان الشيء الرئيسي الذي أوصل الحزب الديمقراطي إلى السلطة هو أنَّه كان قادراً على التصدي لبقايا وممارسات إدارة الحزب الواحد بصورة جيدة جداً. وتمكَّن الحزب الديمقراطي من تطوير خطابات راقت لكلٍّ من قاعدة المجتمع والنبلاء من مُلَّاك الأراضي/الرأسماليين.
وقد أثَّر الحزب الديمقراطي على مُلَّاك الأراضي/الرأسماليين بثلاث سياسات رئيسية:
أولاً، كان الحزب الديمقراطي مؤيداً للسوق الحر، فأطلق رسالة مفادها أنَّه سيُسمَح لرأس المال بالتطور وأنَّه سيجري تنحية سياسات "الدولانية" (سيطرة الدولة) التي نادى بها في سنوات تأسيسه.
ثانياً، اتخذ موقفاً ضد "قانون الحماية الوطنية" (وفقاً للقانون الصادر عام 1940، كان للدولة الحق في مصادرة المنتجات، والعمل الجبري، وتحديد الأسعار في حالة الطوارئ)، رافضاً هيمنة الدولة على المُنتِج والسوق.
وثالثاً، كان معارضاً شرساً لـ"قانون الأراضي للمزارعين"، الصادر عام 1945، والذي نصَّ على توزيع الأراضي على المزارعين الذين لم يكونوا يمتلكون أراضي، من خلال نزع حصص من كبار مُلَّاك الأراضي، وهو ما أثار رد فعل كبيراً من مُلَّاك الأراضي. من ثَمَّ، كان الحزب الديمقراطي يكسب تعاطف مُلَّاك الأراضي/الرأسماليين.
من ناحية أخرى، كان الحزب الديمقراطي قادراً على تطوير خطاب سياسي يستهدف القاعدة الجماهيرية. كان أساس هذا الخطاب هو معارضة "ضريبة الطرق" وضغوط قوات الدرك (الجاندرما) على الناس. وضريبة الطرق، التي جرت الموافقة عليها عام 1921، هي إجراء تشكَّل من جمع الضرائب من الرجال في سن 18-60 عاماً، واستخدام تلك الضرائب لبناء الطرق، ومصادرة سلع أولئك الذين لا يمكنهم دفع هذا الرسم، أو جعلهم يعملون في بناء الطرق.
تضرَّرت صورة قوات الدرك في أعين العامة في تلك الفترة بشدة؛ نتيجة هذه الممارسة. ووضع هذا الموقف حزب الشعب الجمهوري في موقف قمعي في نظر العامة، ومهَّد الطريق أمام الحزب الديمقراطي ليكون بديلاً في الحياة السياسية التركية.
واحدة من سمات الحزب الديمقراطي الأخرى التي جذبت تعاطف الناس هي أنَّه اتخذ موقفاً ضد عملية التماثل العام التي جاءت بها عملية التحديث التركية التي أتت من الأعلى مع الثورة، والإصلاحات التي لم تكن متوافقة مع الشعب.
فعلى سبيل المثال، قام قرار رفع الأذان باللغة التركية عام 1932 على أساس كسر "هيمنة" اللغة العربية على الدين. ومن ناحية أخرى، كان القرار بإغلاق مدارس "إمام خطيب" عام 1932 خطوة اتُّخِذَت نحو علمنة المجتمع.
مع ذلك، لاقت تلك الإصلاحات من الأعلى إلى الأسفل، خصوصاً حين تقترن مع السياسات القمعية لحكومة الحزب الواحد، ردود فعل حادة من الجمهور. وأعلن الحزب الديمقراطي في دعايته قبل الانتخابات أنَّه سيتم رفع قرارات الحظر تلك.
وبالفعل، بعد عام واحد من وصوله إلى السلطة، مهَّد الحزب الطريق أمام عودة الأذان باللغة العربية، وأزال العقبات في طريق فتح مدارس "إمام خطيب". وأصدر مندريس، خلال الفترة التي قضاها في السلطة، بيانات مثل "لقد حرَّرنا ديننا، الذي كان حتى يومنا هذا مضطهداً. لم نُعِر اهتماماً لصخب الثوار، وترجمنا الأذان إلى اللغة العربية. ووافقنا على الصفوف الدينية في المدارس. وتلونا القرآن في الإذاعة. تركيا دولة مسلمة وستبقى مسلمة. وستتحقق كل أركان الإسلام"، كاشفاً بوضوح عن خط وأيديولوجية حزبه.
كفى.. الشعب سيقول كلمته
بعد قراءة كل هذه التطورات، أدرك الحزب الديمقراطي، بزعامة عدنان مندريس، الوضع، ويمكننا القول إنَّ الحزب ظهر كرد فعل مضاد لحكومة حداثية قمعية. تبنَّى مندريس، الذي دخل السياسة بشعار "كفى، الشعب سيقول كلمته"، تفهُّماً سياسياً للشعب، وليس ضد الشعب، وقدَّم على هذا النحو إسهاماً مهماً للحياة الديمقراطية في تركيا.
حصل الحزب الديمقراطي في الانتخابات العامة التي جرت في 14 مايو/أيار 1950 على 53% من الأصوات و84% من مقاعد البرلمان، وهو شكل رد الفعل الذي أحياه المجتمع من جديد ضد حكم الحزب الواحد. وفي يوم 14 مايو/أيار 1950، وهو يوم شديد الأهمية للحياة الديمقراطية التركية، أصدر مندريس بياناً بعد علمه بأنَّ الحزب الديمقراطي فاز بالانتخابات: "سيجري دوماً تذكُّر الرابع عشر من مايو/أيار باعتباره يوماً تاريخياً استثنائياً، أنهى عصراً وبدأ آخر جديداً. إنَّنا نحتفل بهذا اليوم التاريخي باعتباره يوم نصر، ليس فقط لحزبنا، لكن أيضاً للديمقراطية التركية"، وكشف أنَّه يعتبر انتصار الحزب الديمقراطي انتصاراً للديمقراطية وليس مجرد انتصار انتخابي.
تشبه عملية ظهور الحزب الديمقراطي ووصوله إلى السلطة في كثير من الأوجه وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. إذ تأسس حزب العدالة والتنمية عام 2001 بطاقم عمل شهد بصورة شخصية "انقلاب 28 فبراير/شباط ما بعد الحداثة" الذي وقع قبل 4 سنوات من تأسيس الحزب.
في الواقع، أتى طاقم العمل المُؤسِّس لحزب العدالة والتنمية من حزب الرفاه، الذي كان ضحية انقلاب 28 فبراير/شباط. لذا، كان من الطبيعي أن يقف حزب العدالة والتنمية ضد الوصاية العسكرية والأيديولوجيا الكمالية. وبهذا المعنى، فإنَّ الفهم الحداثي والقمعي الذي أتى به حزب الشعب الجمهوري في الأربعينيات قد أظهر نفسه بعد انقلاب 28 فبراير/شباط. علاوة على ذلك، وبالرغم من الستين عاماً التي مرت، يُلاحَظ أنَّه لم يكن هناك تطور ديمقراطي في الأيديولوجيا المهيمنة. فالمؤسسات المناهضة للديمقراطية مثل "مجموعة العمل الغربية" و"غرف الإقناع"، التي تأسست بعد 28 فبراير/شباط، كانت تعمل على ضمان إعادة هيكلة الأيديولوجيا الكمالية.
إذ مُنِعَ الناس من العبادة وحُظِرَ الحجاب في الجامعات والمؤسسات الحكومية تحت مُسمَّى "المجال العام". ومن هذه المنظورات، تتشابه البيئة التي أوجدت الحزب الديمقراطي والبيئة التي أوجدت حزب العدالة والتنمية تشابهاً بالغاً. فمثلما كان الحال مع الحزب الديمقراطي، نشأ حزب العدالة والتنمية بهيكلية "من الأطراف إلى الوسط". ولإيضاح الأمر أكثر، تأسس الحزب لممارسة تأثير من أسفل إلى أعلى، والسماح للمجتمع بتشكيل السياسة، وليس لخلق حداثة من الأعلى إلى الأسفل عن طريق الهندسة الاجتماعية.
وبطبيعة الحال، ليست هذه هي المرة الأولى التي يشير فيها الرئيس أردوغان ضمناً إلى أنَّ حزب العدالة والتنمية هو وريث الحزب الديمقراطي. فكلا الحزبين، وهما في نفس المعسكر أيديولوجياً، يمثلان مؤسستين شكَّلتا الحياة الديمقراطية في تركيا بشكل كبير، وقدمتا إسهامات كبيرة. ومن ناحية أخرى، جعلت إطاحة الوصاية العسكرية بعدنان مندريس في انقلاب وإعدامه جنباً إلى جنب مع طاقم العمل المؤسِّس للحزب إيَّاه بطلاً للديمقراطية في أعين يمين الوسط. وينبغي أيضاً أن نقرأ تأكيد أردوغان على مندريس من هذا المنظور. إذ يشير أردوغان، من خلال إصدار إشارات متكررة لمندريس، إلى أنَّ ما قِيلَ له قد قِيلَ له هو الآخر، وأنَّ نفس الجرائم التي نُسِبَت للحزب الديمقراطي تُنسَب أيضاً لحزب العدالة والتنمية. لذا، جعل أردوغان شعار "انطلقنا في هذا الطريق بكفننا" شعاراً له يكشف أنَّه سيواصل في هذا الطريق حتى مع علمه بنهاية مندريس.
تمثل حقيقة إجراء الانتخابات العامة لعام 2023، والذي اعتُبِرَ عاماً لـ"رؤية تركيا"، في 14 مايو/أيار رسالة حازمة لكلٍ من المجتمع وممثلي الأيديولوجيا الكمالية. فمن ناحية، تُبعَث رسالة إلى المجتمع بأنَّ هذه الانتخابات تُمثِّل صراعاً أيديولوجياً وليس خياراً سياسياً عادياً، تُمثِّل صداماً للأيديولوجيتين الدينية-المحافظة والعلمانية اللتين وُجِدَتا منذ مرحلة التحديث العثمانية.
وتُظهِر ما يتوقعه المجتمع في حال تغيرت السلطة، مُذكِّرةً بضغوط إدارة الحزب الواحد إبَّان فترة الحزب الديمقراطي. ومن ناحية أخرى، يجري تذكير أنصار الأيديولوجيا الكمالية بنضال مندريس الذي قاد إلى حكم الإعدام، والرسالة التي تُبعَث هي أنَّ هذا النضال "مقدس" بالنسبة لهم. وسيُنشِّط هذا القرار الحكيم للغاية من جانب أردوغان النهايات العصبية للمجتمع ويصلها بالسفينة الأم من خلال تذكير المجتمع بالصدمات التي مرَّ بها، مثل حقبة الحزب الواحد، وعملية انقلاب 27 مايو/أيار، وانقلاب 28 فبراير/شباط.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.