على سبيل الفضول، قررتُ تصفُّح قائمةٍ حَوَت أسماء الخلفاء العباسيين ونهاياتهم. حيث تُشكل نهايات الخلفاء مؤشراً مهماً على مدى قوة الدولة، فكلما طال بقاء الخليفة في منصبه ورحل عنه بشكلٍ طبيعي، دلَّ ذلك على استقرار الدولة ومناعة مركز الحُكم فيها عن التغيرات الخارجية.
وفقاً لذات المعيار، فإن البداية الحقيقية لعصر انحطاط الدولة العباسية كان في عهد الخليفة المتوكل على الله، الذي قتله الأتراك وعيّنوا ابنه بدلاً منه، صانعين حدثاً فريداً في تاريخ الدولة العباسية، وكان المتوكل أول خليفةٍ عباسي يُزاح من منصبه بالقتل.
قرأتُ في كُتب التاريخ أن عهد المتوكل أسّس لما سنعرفه لاحقاً بالعصر العباسي الثاني، دخلت الدولة العباسية في أتونِ مرحلة جديدة، هي ازدياد نفوذ قادة الجيش الأتراك الذين انتشروا في الدولة بدايةً من عهد الخليفة المعتصم، ومن بعده استمرّت قوتهم في التعاظم حتى همّشوا الخليفة وحوّلوه إلى مجرد رمز يسهل احتواؤه والخلاص منه عند اللزوم.
عقب المتوكل كرّت مسبحة الخلفاء القتلى، أغربهم -في رأيي- هو الخليفة المقتدر بالله، الذي نُصِّب بواسطة قائد جيشه، وحماه لسنواتٍ طِوال من المؤامرات، حتى وقع بينهما خلاف فقتله قائد الجيش وعيّن أخاه بدلاً منه.
تُنبئ تلك الأفعال بقائد جيش عباسي نال مكانة لا تُضاهَى؛ بكلمة منه يُعيّن خليفة ويعزل آخر، فمن هو؟ وكيف نال تلك المكانة؟
ما قبل قيادة الجند.. من هو مؤنس الخادم؟
ذلك القائد العسكري المهيب هو مؤنس الخادم. لم أوفّق في العثور على كثيرٍ من المعلومات حول حياة مؤنس قبل أن يكون قائداً عسكرياً بارزاً، فأول إشارة رصدتُها بشأنه كشفت لي أنه بدأ حياته خادماً في دار الخليفة المتوكل، وبعد قتل الخليفة المتوكل انتقل إلى خدمة الخليفة الموفق، وشارك معه في حرب الزنج.
أما خلال خلافة المعتضد، فحسبما ذكر الطبري، فإن مؤنساً صار يشغل وظيفة "صاحب شرطة العسكر".
بالنسبة لي، فإن الأرجح أن مؤنساً نال تلك الحظوة بسبب العزلة التي فرضها الأتراك على الخلفاء وباقي الأمراء العباسيين الذين سُجنوا في قصورهم؛ ليتركوا شؤون الحُكم للوافدين الأتراك. نتيجة لـ"حبسة القصور"، فإن الخلفاء لم يجدوا ندماء لهم إلا الخدم والخصيان الذين امتلأت بهم القصور، حتى قيل إن الخليفة المقتدر بالله كان يمتلك 11 ألف خادم.
من ضمن هؤلاء كان "مؤنس"، الذي ظفر بثقة الخليفة المعتضد حتى بات يُسيّره معه في حملاته العسكرية، مثل التي جرت بحق الأمير المتمرد "لؤلؤ الخادم" الذي وقع أسيراً بين أيدي غلمان المعتضد، وسلّمه لمؤنس تحديداً لحراسته، وهو ما أكّد لي مدى ثقة الخليفة بمؤنس وبكفاءته. لكن ما أسرع تقلبات الدهر في قصور الحكام، فبعد حينٍ من الزمن سيشكُّ الخليفة المعتضد في نوايا مؤنس، وأنه يبتغي منازعته سُلطانه، لذا قرر إبعاده إلى مكة.
عندما تولّى الخليفة المكتفي بالله، أمر بإعادة مؤنس إلى الجيش وكلّفه بتنفيذ مهام عسكرية شاقة، فشنَّ غارات واسعة على القرامطة، وهنا بزغ دور مؤنس كقائد فذ لأول مرة، بعدما تمكّن من صدِّ هجومٍ قرمطي على الكوفة عام 292هـ\905م، بعدما قاد مؤنس كتيبة من الجند عاونت حامية الكوفة على صد الهجوم، ثم زودت الماء والزاد للأهالي فحبّبه إلى الناس.
مثّلت تلك الغارة إعلاناً ببزوغ نجم جديد على ساحة السياسة العباسية، وهو القائد العسكري مؤنس.
في أتون السياسة
حتى تلك اللحظة بقي مؤنس بعيداً عن معترك السياسة، مكتفياً بأداء خدمات "وطنية" تحمي الدولة العباسية من غارات المتمردين، لكن هذا الحياد لم يستمر طويلاً بعدما جُرجِر له مؤنس في عهد الخليفة المقتدر.
فحسب ما قرأتُ في كتاب "اضطرابات الجيش في ظل الدولة العباسية" لوفاء العبيدي، فلقد هندَسَ مؤنس بيعة المقتدر، أصغر خليفة في تاريخ العباسيين وقتها، وهو ما انعكس سريعاً في ضعفه الشديد عن قيادة الدولة وترك كل أمورها للخدم، وعلى رأسهم مؤنس.
صِغر سِن الخليفة وضعفه وقِلة حيلته أمام قادته وخدمه شجّع أميراً عباسياً آخر على الانقلاب على الحُكم، وهو ما جرى مع عبد الله بن المعتز الذي نجح في الاستيلاء على الحُكم بفضل دعم قائد الجيش الحسين بن حمدان.
انفضَّ أغلب قادة الدولة عن الخليفة المعزول إلا مؤنس. في بحثه "الحروب الداخلية والخارجية للقائد العباسي مؤنس الخادم" يقول جلال امباركي: "حمل مؤنس جنوده وهاجموا قصر الخلافة الذي استقرّ فيه الخليفة الجديد عبد الله بن المعتز بالنشاب، فهرب مع وزيره محمد بن داود، ومعهما الجند والقوّاد والكتّاب، فتراجع بعضهم عن نصرة ابن المعتز وعادوا إلى بيعة المقتدر".
وتنسب المرويات لمؤنس أنه لعب دوراً كبيراً في إنقاذ حياة الخليفة خلال لحظات الانقلاب عليه، فعندما هاجم 12 ألفاً من المتمردين دار الخلافة اختفى المقتدر في أحد جوانب القصر حتى عثر عليه مؤنس، فنقله وعائلته إلى داره، واستتروا فيها، ولم يخرجوا منها إلا بعد تصفية كل جيوب التمرُّد.
القائد المظفّر
إكراماً لوفائه، عيّن الخليفة العائد إلى منصبه مؤنساً رئيساً على شرطة بغداد، وطلب منه الاستمرار في ملاحقة أنصار ابن المعتز فقبض على الكثيرين منهم وقتلهم جميعاً، وعلى رأسهم عبد الله بن المعتز نفسه.
وهنا يعلّق امباركي: استفاد مؤنس الخادم من حسم الفتنة بشكل كبير بين أنصار المقتدر بالله ومؤيّدي عبد الله بن المعتز، وأصبح الآمر والنّاهي في البلاط المقتدري، ويمكن القول إنّ تكتّل القادة العسكريّين الأتراك بزعامة مؤنس، كان يعمل على الانتصار لخليفة ضعيف وهوّ المقتدر بدلاً من خليفة كبير السّن حنّكته التّجارب، يعيد سيرة الموفّق والمعتضد والمكتفي؛ مثل عبد الله بن المعتز.
في منتصف شعبان 296هـ\909م خلع الخليفة على مؤنس ولقّبه بـ"المظفّر"، وأصبح يُنظر له باعتباره الحامي الأول للدولة فخرج ليُحارب الروم على ثغور الشام فـ"ظفر وغنم وأسر جماعة منهم".
من الشام سافر مؤنس إلى فارس حيث قمع تمرد الصفّاريين الذين خلعوا الطاعة العباسية وأعلنوا الاستقلال.
بهذين الانتصارين المتتاليين أصبح مؤنس كنزاً استراتيجياً للخليفة العباسي الذي يحيط به الأعداء من كل مكان؛ الروم شمالاً، والصفّاريون شرقاً، والقرامطة غرباً. وبخلاف هؤلاء كان الفاطميون في المغرب قد قويت شوكتهم وأظهروا مطامع للاستيلاء على مصر تمثّلت في تدبير غزوات متتالية للإسكندرية، وهو ما دفع الخليفة لإرسال حلاّل العُقد مؤنس إلى مصر لوأد الفتنة الفاطمية في مهدها، وبالفعل أفشل مخططات المغاربة واستعاد الإسكندرية منهم وأجبرهم على العودة إلى بلادهم.
وهكذا، أصبح مؤنس هو كلمة السر الرئيسية للخليفة الراغب في حماية عرشه من تكالب الأعداء عليه، فعندما تمرّد يوسف بن أبي الساج على العباسيين في أرمينية سنة 288هـ\901م انتصر عليه مؤنس وعاد به أسيراً إلى بغداد. وعندما حاصر زعيم القرامطة أبو طاهر الجنابي بغداد سنة 311هـ\923م وكاد أن يستولي على المدينة لولا تدخل مؤنس في اللحظات الأخيرة.
تضخم رصيد مؤنس العسكري دفعه إلى التدخل في شؤون البلاط، ومنح لنفسه الحق في تعديل قرارات الخليفة كما شاء، فحينما أراد المتوكل تعيين ابن الفرات وزيراً، رفض مؤنس لخلافٍ عميق بينهما ومنع المقتدر من تنصيبه، وبدلاً منه استوزر علي بن عيسى، كما أنه كان يتّخذ قرارات تعيين بعض الوُلاة بدلاً من الخليفة. كذلك تشكّلت فرقة عسكرية كاملة في الجيش العباسي حملت اسمه وعرفتها كُتب التاريخ بـ"المؤنسية"، وهو إجراء لا يحدث إلا مع كبار القادة التاريخيين.
الصدام مع الخليفة وقتله
على الرغم من الجهود الضخمة التي بذلها مؤنس الخادم في سبيل تثبيت عرش المقتدر فإن الخلافات ظهرت بين الرجلين نتيجة استفحال نفوذ مؤنس، واعتباره لنفسه بأنه الرجل الأول في الدولة، وليس مجرد قائد عسكري بارع.
سبب ذلك الخلاف يرجع بالأساس إلى الوزير الحسين بن القاسم، الذي بدأ في إقامة تحالفات مع بعض أمراء الجيش الأقوياء حتى يكون قادراً على مواجهة مؤنس حال وقوع أي شقاق بينهما. عندما نمى إلى عِلم مؤنس هذه التحركات أمر بالاعتداء على منزل الوزير ونهب محتوياتها، وهو ما أثار غضب الخليفة بعدما اعتبر تلك الخطوة عدواناً على الدولة ذاتها، استاء مؤنس من غضب الخليفة عليه فأعلن مغادرته بغداد بصحبة جنوده إلى الموصل.
تلك الخطوة كانت إجراءً خاطئاً من مؤنس كلّفه الكثير لاحقاً، بعدما استغلَّ الوزير والخليفة غيابه فأمرا بتعيين والي العباسيين على الأهواز ياقوت في بغداد، فراحا يزيحان أعوان مؤنس من كل المناصب القيادية، كما صادروا أملاكهم.
سريعاً اشتعلت نار العداوة بين فريقي الخليفة ومؤنس، والتقى الجمعان وتقاتلا في شوال 320هـ\933م، هذه المرة حقّق مؤنس انتصاراً آخر شهد حدثاً جسيماً هذه المرة وهو قتل الخليفة ذبحاً.
عقب مقتل المقتدر، أصبحت مهمة اختيار الخليفة الجديد بين يدي مؤنس وحده. حاول أن يعيّن أبو العباس بن المقتدر مكان أبيه بعدما وصفه بأنه "تربيته"، لكنه عدل عن ذلك إثر استشارة بعض موظفي القصر وكبار القضاة، الذين ألحّوا عليه في تعيين "القاهر" بدلاً منه.
بعد إتمام البيعة، كانت أول مهمة ابتدأ بها القاهر حُكمه هي كيفية الخلاص من تسلُّط مؤنس ورجاله وتدخلهم في كل شؤون الحُكم، فبادر في تحدّيه ورفض طاعة أوامره، وهو ما دفع مؤنس للتخطيط لخلعه وتنصيب ابن المكتفي بدلاً منه. هذه المرة كان القاهر أسرع، واستعان بإحدى فرق الجيش التي قبضت على مؤنس وأعدمته بعد أن تجاوز نفوذه الخطوط الحُمر. طاف الجنود برأس مؤنس في شوارع بغداد إعلاناً باستفراد القاهر بالخلافة.
لسوء حظ الخليفة القاهر، فإنه لم ينعم بهذه الأوضاع طويلاً، فسريعاً ما انتفض عليه الجند وقبضوا عليه وعذبوه حتى فقد بصره، وأخضعوه لاستجوابٍ قاسٍ لمعرفة مكان الأموال التي استولى عليها من مؤنس.
أنكر الخليفة السابق القاهر حيازته لتلك الأموال، وخرج من السجن محطماً، وكان أول خليفة تُسمل عينيه، وعاش بقية حياته فقيراً حتى شُوهد وهو يطلب الصدقة من الناس على باب جامع المنصور، حسبما ذكر رامز تمراز في كتابه "تدخل القادة العسكريين في العمل السياسي وأثره على الخلافة العباسية".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.