يقولون "إن المحك في السياسة ليس كيف تبدأ ولكن كيف تنتهي" عبارة تشير إلى أهمية التؤدة والتأني في اتخاذ أي قرارات مصيرية في عالم السياسة، خاصة المتعلقة بالحروب؛ لأن نهايتها تكون مُبهمة، والقرارات غير محسوبة العواقب في أروقة صانع القرار السياسي، وهي في حقيقتها مخاطرة تورد صاحبها إلى التهلكة، أو تُدخله في دائرة صراع طويل الأمد لا ينتهي حتى يستنزفه عن آخره، لذلك قال الجنرال الأمريكي ديفيد بتريوس مع بدء غزو أمريكا العراق: أخبرني كيف سينتهي هذا الأمر؟
وبالفعل تحقّق ما رمى إليه قوله وبقيت أمريكا مغروسة في وحل الغزو العراقي عدة سنوات، وما زال أثر ذلك الغزو يتردد صداه إلى الآن حول ماهية وجدوى سياسة أمريكا الخارجية، القائمة على نفعيّة بحتة لا تعبأ بحليف ولا تكترث بالقانون الدولي، وتتذرع بحجج كاذبة لبسط نفوذها وتكثير مواردها، وإن أظهرت عكس ذلك.
وما يؤكد طرحنا الزيارة السرية التي قام بها "ويليام بيرنز" مدير "CIA"، لـ"كييف" مطلع الأسبوع الحالي للقاء الرئيس الأوكراني؛ حيث أطلعه على توقعاته بشأن الخطط العسكرية الروسية المقبلة، وجاءت هذه الزيارة بالتزامن من إعلان الولايات المتحدة عن حزمة جديدة من المساعدات العسكرية لأوكرانيا بقيمة تصل لـ2.5 مليار دولار.
وعلى صعيد موازٍ تنجر أوروبا للفخ الأمريكي؛ حيث سيعقد اجتماع للدول الداعمة لأوكرانيا في قاعدة "رامشتاين الأمريكية" في ألمانيا، لكن من الواضح أن توقعات زيلينسكي بعيدة المنال من الحصول على معدات عسكرية ثقيلة، لكن في الواقع لأن معظم المساعدات العسكرية الامريكية لا تضم دبابات من طراز "أبرامز" الاستراتيجية، ودائماً ما تبرر "واشنطن" عدم إرسالها دبابات ثقيلة لكييف بمسائل تتعلق بالصيانة والتدريب، وهذا ما يؤكد الطرح القائل بأن الولايات المتحدة تريد أن تبقى الحرب الروسية الأوكرانية مشتعلة.
ومع دخول الحرب الروسية – الأوكرانية عامها الثاني تجلّت الكثير من الرؤى والتحليلات حول جدوى استمرار الحرب ومن المستفيد الرئيس منها، هل روسيا أو الصين أم دول حلف الناتو وبالأخص منها الولايات المتحدة؟ الإجابة أفاد بها ضمناً وزير الخارجية الأمريكي السابق ثعلب السياسة هنري كيسنجر؛ حيث قال: إن الهجوم الروسي على أوكرانيا أظهر أنه لم يعد هناك من مبرر لبقاء الأخيرة خارج حلف شمال الأطلسي، ويتابع بقوله: "قبل هذه الحرب، كنت معارضاً لعضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي؛ لأنني كنت أخشى أن تتسبّب بالضبط بالعملية التي نشهدها الآن".
تصريحات كيسنجر ليست اجتهاداً شخصياً أو حلماً من نسيج الخيال يتعذّر تحقيقه، بل طرح جاد ربما يعكس رغبة أمريكية خلف الكواليس في ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو عكس موقف الدول الغربية التي لا ترغب في التصعيد وتهيئة السياقات العسكرية والسياسية لروسيا، ما يعني مزيداً من الذرائع لتوسّع روسي لن تسلم أوروبا من شرره المتطاير إذا حدث وانضمت أوكرانيا لحلف الناتو.
ترفض أوروبا المواجهة المباشرة مع روسيا، تاركة للأفق السياسي والدبلوماسية مجالاً واسعاً لحل الأزمة وإن طال أمدها واشتدت وطأتها على الجميع، يكفي أن تقف الأزمة ولو مؤقتاً عند الحد الأدنى من الخطر، فأوروبا لا تقدر على دفع تكاليف حرب طويلة الأمد مع خصم عنيد، بسبب ما تعانيه من نقص في الأسلحة، وأزمات اقتصادية ترتبط بشح الغاز وارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة السخط الجماهيري وتراجع شعبية دعم أوكرانيا ضد روسيا، فهناك تقارير تفيد بأن 50% من الألمان يؤيدون تنازل أوكرانيا عن بعض الأقاليم لصالح روسيا من أجل إنهاء الحرب.
وقد عبرّت وزيرة الدفاع الألمانية، كريستين لامبرخت، عن مخاوف ألمانيا من نقص مخزونها الاستراتيجي من الأسلحة في تصريحات سابقة حين قالت: إن بلادها ستقلل من الأسلحة التي سوف ترسلها لأوكرانيا بعد تخطيها الحد المسموح به، لتكشف بمخاوفها تلك بدء العد التنازلي في الدعم المفتوح لأوكرانيا، ولم يعد هناك شيكات على بياض بسبب محدودية الأسلحة، التي هي بالأساس تدخل ضمن التزامات ألمانيا العسكرية في حلف الناتو.
وفي بريطانيا كانت نسبة الذين يؤيدون فرض عقوبات على موسكو حتى لو أدى ذلك إلى ارتفاع تكلفة المعيشة تبلغ 48%، في مقابل 38% يعارضون مزيداً من العقوبات، لكن أواخر عام 2022 انقلبت النسبة وبات نصف البريطانيين معارضين لفرض عقوبات إضافية على روسيا، كما أن كثيراً من الذين تقدموا للمشاركة في استضافة أسر اللاجئين الأوكرانيين في أول 6 أشهر من الحرب تراجعت رغبتهم، وذابت حماستهم تحت صهد الأزمة الاقتصادية والرغبة في إنهاء الحرب.
على الصعيد الأمريكي فليس هناك أي ضرر يلحق بالولايات المتحدة، كعادة كل الصراعات الدولية التي تكون طرفاً فيها، فمهما بدا على السطح من متانة العلاقات الغربية الأمريكية يبقى عنصر الضغط الاستراتيجي على أوروبا باستمرار هدفاً أمريكياً، لتبقى مسيطرة ولها الكلمة العليا في الناتو، خاصة في ظل شيوع سرديات حول تراجع قوة أمريكا عالميا وتوازن القوى الدولية، وأن فكرة القطبية الواحدة بدأت تدخل فلك الغروب، لذلك فإن دفع أوكرانيا للانضمام لحلف الناتو سراً أو جهراً، يتماهى مع مصالح الولايات المتحدة، لتضييق دائرة التحكم على الاتحاد الأوروبي ووضعه في موقع المحتاج دائماً للدور الأمريكي اقتصادياً وعسكرياً.
فالنفوذ الأمريكي يتنامى عالمياً ويشتد كلما التهبت بؤر الصراع واتسعت، كونها الدولة الأقل تضرراً والأكثر قدرة عسكرياً والأشد تحصيناً، وليس من المستبعد أن تدفع أمريكا أوكرانيا للانضمام للناتو لتشتعل فتيل الأزمة ويتورط الجميع، ثم تتدخل وتقوم بدور رجل الإطفاء وتُملي شروطها على الكل، وتصيغ المشهد مجدداً على هوى مصالحها.
أرى أن استمرار الحرب في أوكرانيا فخ للغرب قبل أن تكون استدراجاً لروسيا، فروسيا عدو تقليدي للولايات المتحدة ويُعرف آخره جيداً، لكن أن تخرج أوروبا عن طوع القبضة الأمريكية فهذا هو الخطر الحقيقي على هيمنتها، فكان لا بد من وجود عدو قريب وتحفيزه كذريعة لاستدعاء أمريكي في أي وقت.
وطبقاً لنظرية الاحتواء التي وضعها المفكر الأمريكي "نيكولاس سبيكمان" المعروف بأبي علم الاحتواء والتي بنت أمريكا سياستها الخارجية على نظرياته في هذا الصدد، أن منطقة الحافة منطقة اصطدام القوى الدولية هي المدخل للسيطرة على العالم، وتتمثل في غرب أوروبا والشرق الأوسط ووسط آسيا، فيقول سبيكمان: "من يُسيطر على منطقة الحافة، يسيطر على أوراسيا، ومن يسيطر على أوراسيا يسيطر على العالم".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.