نقل لنا القرآن الكريم في سوره ما دار بين كليم الله موسى (عليه السلام) وفرعون من الحوار، الذي عرّف فيه موسى (عليه السلام) فرعونَ وملأَه بالله عز وجل، وأنه هو الرب والإله الذي يجب أن يُعبد ويُطاع، وبأن له الصفاتِ العُلى، والعِلمَ المحيط بكل شيء، والقدرة المطلقة. وكان حواراً شيّقاً مفيداً وحججياً قوياً؛ لأنه يُلامس فطرة القارئ، ويُلامس قلبه وينوّر عقله. ونقل الله تعالى لنا هذا الحوار في أكثر من سورة، في أشكال متعددة من حيث الاختصار والتفصيل، ومن حيث ذكر بعض الجوانب مع إغفالها في مواضع أخرى، وهنا ذكرت لنا سورة طه هذا الحوار الذي ابتدأ بسؤال فرعون: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى﴾ [طه: 49].
فكان الجواب الأول من موسى (عليه السلام): ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50].
قال الشيخ النابلسي في تفسير هذه الآية: أي إنه خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم أعطاه فِكراً وقوة إدراكية، يعرف بها الخير من الشر، والحق من الباطل، وما ينفعه وما يضره، وهداه إلى كسب رزقه وإلى طريقة عيشه، فخلقه خلقاً كاملاً، وهداه إلى طريق سعادته بما أعطاه من قوة إدراكية، فخلقه وأعطاه وهداه.
لو اطلعت على آلية الولادة لرأيت أعظم آية من آيات الله عزّ وجل، فهذا الرحِم جعله الله في قرار مكين، وجعله يتمدد "من 7سم3 إلى 3500 سم3″؛ أي مئات بل ألوف الحجوم الكبيرة كي يتسع لهذا الجنين، ثم يتقلص تقلصاً لطيفاً ليدفعه إلى خارج الجسم في الوقت المحدد، فإذا خرج الجنين إلى خارج الرحم انقبض الرحم انقباضاً شديداً؛ ليسد الشرايين المفتوحة، ولولا انقباضه لماتت الأم من شدة النزيف، فمن رتّب هذا؟ ومن هيّأ هذا؟ ومن سيّر هذا الجنين؟
قال تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)﴾ [عبس:17-20]
فهذا الطفل الصغير الذي يُولد لتوّه يلتقم ثدي أمه، وإن التقام الثدي عملية معقدة، ففيها إحكام الشفتين على حلمة الثدي، وفيها سحب الهواء كي يخرج الحليب وفيها أشياء كثيرة أخرى، ولو أن هذا الطفل الصغير لا يعرف كيف يلتقم ثدي أمه لمات جوعاً، فليس بالإمكان أن تعلّمه، إذ ليس عنده إدراك ولا لغة ولا قدرة على الاستيعاب، فلولا منعكس المصّ الذي جعله الله عزّ وجل في الطفل الصغير، لما عاش إنسان على وجه الأرض، قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد:10].
– فمن جعل اللبن يخرج لهذا الطفل في الوقت المناسب؟ معيّراً في كل يوم من أيام نموه، بارداً في الصيف، دافئاً في الشتاء، معقماً وفيه مناعة الأم كلها؟
-وخلق له عينين، ليرى بهما كل شيء، فهو يرى الأشياء بأحجامها وألوانها وأبعادها الطولية والعرضية والعُمقية، وهذه العين لها عتبة تقف عندها، فلو أن هذه العتبة ارتفعت لرأيت في كأس الماء ألوف الألوف من الكائنات الحية، ولعزفت نفسك عن شربه، لكن الله عزّ وجل لحكمته البالغة جعل البصر يقف عند حد، قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)﴾ [البلد:8-9]، فخلق له لساناً وشفتين، فبالشفتين يلتقم ثدي أمه، وباللسان ينطق ويعبر عن آرائه وعن أفكاره وعن مشاعره، فمن خلق آلية النطق؟
كيف تتكلم وكل حرف يحتاج على 17 عضلة تأخذ وضعاً معيناً حتى يخرج هذا الحرف؟ كيف إذا كانت الكلمة خمسة أحرف، فهل بإمكان الإنسان أن يتكلم بنفسه؟ أو أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يُنطقه؟ لولا أن الله تولى عنه تحريك هذه العضلات؛ لما أمكنه أن ينطق بكلمة واحدة.
والسمع له درجة، والبصر له درجة، والحس له درجة، وجعل الله السمع يقف عند حد فلو أنه أسمعك كل شيء لسمعت حركات الأحشاء فلا تنام الليل، والأعصاب جعلها بحساسية معينة، فلو زادت لاختل نظام الحياة، ولك ذاكرة سمعية تعرف بها أصوات كل من حولك، فأنت تسمع المكالمة الهاتفية فتقول لأول وهلة: إنه فلان، فكيف عرفت أنه فلان؟ لولا أن لك ذاكرة سمعية لما عرفت، وإن لك أيضاً ذاكرة شمّية وذاكرة بصرية وذاكرة أسماء وذاكرة أرقام، وذاكرة طعوم.
– وجعل الله تعالى للإنسان هيكلاً عظمياً، وجعل له عضلات تحرك العظام، وجعل لهذه العضلات أوتاراً.
– وجعل الشرايين والأوردة وجعل القلب والرئتين، وجعل المعدة والأمعاء وجعل المعدة والأمعاء وجعل جهاز الإفراز وبثّ في هذا الجسم الأعصاب والغدد الصماء، فخلق الله سبحانه وتعالى الإنسان في أحسن تقويم كما قال سبحانه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ [التين:4].
– وأكثر الأعضاء فيه تعمل ليلاً ونهاراً، بلا كلل ولا ملل، تنام أنت والدماغ يقظان والهضم يعمل وأنت نائم والتنفس يعمل وأنت نائم، ويقلبك في الليل ذات اليمين وذات الشمال، وأعمال أخرى لا يعلمها إلا الله وكلها تكون وأنت نائم، فيعد الإنسان أعقد آلة على وجه الأرض. [تفسير النابلسي (7/50].
– لو أمضيت الحياة كلها في الوقوف على دقائق خلق الإنسان ما انتهيت منها، أليس خلقك أنت معجزة؟ أليس خلق ابنك -الذي تعرف كيف- أكبر آية دالة على عظمة الله -عزّ وجل-؟
يقول ربنا في آية أخرى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر:49]، فماذا عن خلقه للحيوان؟ انظر إلى الجمل: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية:17]، فمن جعل هذا الذي يستعين به على السير على الرمال؟ ومن جعل لعينيه جفنين؟ ومن جعله يتحمل العطش لمدة طويلة؟ إنه الله سبحانه وتعالى.
- وانظر إلى الطائر كيف يطير؟ ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ [الملك:19] وهو شيء يأخذ بالألباب.
– وانظر إلى الأسماك كيف تسبح في الماء؟ لماذا خلق الله لها هذه الزعانف؟ إنها أدوات توجيه وأدوات تواز وأدوات تحريك، ومن جعل لهذه السمكة مقياس ضغط تعرف به موقعها في الماء؟ أهي أقرب إلى السطح أم إلى القاع؟
يُقدر علماء الأحياء أن في البحر مليون نوع من السمك أي: ألف ألف ولو اطلعت على بعض كتب البحار، أو على بعض المصوّرات، لرأيت العجب العُجاب فهناك سمك لطيف، وسمك للزينة وسمك كبير، وهذه الأسماك كلها تتنفس من أكسجين الماء، ولذلك يلاحظ في أحواض الأسماك فقاعات هواء لأن السمك يتنفس الأكسجين الممزوج بالماء لكن الحوت من الثدييات، فلا يتنفس إلا الهواء فيخرج إلى السطح ليتنفّس، فيصطاده الإنسان ولولا أنه يتنفس الهواء لما أمكن اصطياده وهو حوت ضخم ويُعد عملاق البحر، يزن 150 طناً ويسمى الحوت الأزرق وفيه 50 طناً من الدهن ويعطينا 90 برميلاً زيتاً، وهو ثروة كبيرة جداً … ولو أمضينا الحياة كلها في الوقوف على آيات الله التي بثها في الأرض لما انتهينا من آية واحدة، أليست هذه الآيات كلها دليلاً قطعياً على وجود الله وعلى ربوبيته وعلى ألوهيته وعلى عظمته وعلى أسمائه الحسنى؟
إن الكون كله ما هو إلا دليل على أسمائه الحسنى وصفاته العُلى، فماذا أقول حول هذه الآية؟!
إن الساعات الطوال لا تكفي لشرح هذه الآية من الوجهة العلمية، فهذه الآية يمكن أن تؤلف حولها مجلّدات ولو أملينا فيها دروساً كبيرة؛ ما انتهت؛ لأنها بحث في خلق كل شيء بدءاً من الإنسان، ومروراً بالحيوان والنبات، ثم الكون فكل شيء مخلوق في أبدع صورة وفي أدق ترتيب وقد هُدي هذا المخلوق إما بالغريزة وإما بالفكر، وإما بالكشف وإما بالإلهام ووسائل أخرى، فهدي إلى هدفه وحاجته وسبل معاشه وعلّة وجوده.
فكل حيوان خلقه الله في أبدع تكوين ثم هداه إلى طعامه وشرابه وهدى الطائر إلى بناء عشّه وإلى رحلة طويلة ما زال العلم حتى الآن حائراً في طريقة اهتداء الطيور على أهدافها البعيدة، وأعطى السمكة الخلق الأكمل، ثم هداها لرحلة تقطع بها عشرات الألوف من الأميال وكل مخلوق هداه الله إلى سبل العيش، فكيف يعيش؟ وكيف يأكل؟ وكيف يأوي إلى عشه أو إلى جحره؟ هذه هداية الله عزّ وجل، لا أن الحيوان يقوم بأفعال ذكية جداً من دون تعليم، وقد عبّر عنها بعض علماء الغرب بالغريزة، والغريزة هنا كلمة لا معنى لها، وإنما جهز الله الحيوان بهذه الغريزة التي هي من أعقد الأفعال، ولكنها مجهزة تجهيزاً تاماً من دون جهد، وبأن الإنسان هو أرقى هذه المخلوقات هداه الله إليه وأنعم عليه بنعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ونعمة الإرشاد.
- فمعنى ﴿الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ﴾ أن الله جهز كل مخلوق ببنية وطبيعة ونفسية وأجهزة وأعضاء تناسب مهمته في الحياة، ﴿ثُمَّ هَدَى﴾ كل حيوان إلى طعامه، وهداه إلى شرابه وهداه إلى قضاء حاجاته، وهداه إلى دوائه، فقد يُصاب الحيوان بمرض فيذهب إلى البستان يبحث عن حشيشة بعينها، فيأكلها فيشفى، وهداه إلى طريقة توالده، وهداه إلى أنثاه، وهداه إلى كل شيء، لكنه أعطى الإنسان الفكر وبالفكر ارتقى الإنسان وهدى الله الإنسان إليه ليعرفه فيعبده، فعن طريق ماذا هداه إليه؟
عن طريق الكون وعن طريق الأنبياء وعن طريق الكتب وعن طريق ورثة الأنبياء الدعاة إلى الله، وعن طريق المصائب وعن طريق الضيق وعن طريق الغنى وعن طريق الفقر وعن طريق المرضى وعن طريق الصحة: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد:7].
فهدى الله سبحانه الإنسان إلى علة خلقه، وهداه إلى تحقيق مهمته على وجه الأرض وزوّده بهذا العقل الذي هو القوة الإدراكية ليهتدي به إلى الله عزّ وجل. [تفسير النابلسي، 7/337].
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.