تناولنا في المقال السابق إطلالةً على دور القدس في العلوم الشرعية، وكيف تحولت إلى مركزٍ لهذه العلوم، وما للمسجد الأقصى من مكانة في نشر هذه العلوم خلال العصور الإسلامية، وقد ركز المقال بشكلٍ عام على علوم القرآن والفقه والحديث وغيرها، ولكن الاهتمام الإسلامي في العلوم لم يكن محصوراً بعلوم الشريعة فقط، فقد شهدت الحواضر الإسلامية ومن بينها مدينة القدس اهتماماً بالعلوم التجريبيّة، ونبغ من المقادسة علماء كبار تركوا بصمة نوعية في العلوم التي تخصصوا فيها.
ويعدّ الطب واحداً من العلوم المبرزة في القدس خلال العصور الإسلامية، وقد ازدهر ازدهاراً كبيراً خلال القرن الثالث الهجري على يد العلامة محمّد بن أحمد بن سعيد الحكيم التميمي المقدسي التُرياقي (ت 390ه/1000م)، وهو طبيبٌ وصيدليّ وعالم بأنواع النبات وفوائدها، ولُقب بالترياقي نتيجة لبراعته في تركيب الأدوية والمعاجين، حتى أصبح أبرز الأطباء في بلاد الشام، ومقصداً للطلاب.
ومما يُظهر انتشار علوم الطب في بيت المقدس عدد الأطباء الذين أخذ عنهم الترياقي العلم، ومن بينهم الحسن بن محمـد بن أبي نعيم، وهو من أبرز مشايخ الترياقي وعنه أخذ علوم الطب، إضافة إلى والده أحمد بن سعيد وجده سعيد التميمي المقدسي، وغيرهم. تعدد من أخذ عنهم الترياقي يُشير إلى انتشار المتخصصين في علوم الطب في مدينة القدس، وإلى أهمية المدينة في هذا الميدان العلمي، إضافة إلى الطبيعة المحيطة بالمدينة وفي بلاد الشام عامة، من حيث النباتات والأزهار وما يتصل باستخدامها طبياً.
وبما يتصل بالطبيب التميمي، وما يدلل على درجة براعته في علوم الطب والصيدلة، دخوله في خدمة بعض ولاة الإخشيديين في فلسطين، ومع دخول الفاطميين إلى مصر، تم استدعاء الترياقي إليها، وصنع الأدوية والأشربة لكل من المعز والعزيز من خلفاء الفاطميين، ومع هذا العطاء الكبير ترك التميمي العديد من المؤلفات بعضها حول الطب والصيدلة، وبعضها عن صناعة الأدوية وذكر دواعي استخدامها وغيرها، إضافة إلى كتاب تناول فيه تلوث الهواء وما يتصل بها من حماية البيئة، ما يجعل التميمي رائداً في ميدان حماية البيئة وهو ما يُظهر التقدم العلمي والمدى الذي وصل إليه التميمي، وتناوله موضوعات ذات صلة بحياة الناس، وتناول ضروب من العلاج النفسي عبر الموسيقى والألحان.
ومن الأطباء الذين قدموا إلى القدس بعد تحريرها من الصليبين، رشيد الدين الصوري (ت 604 هـ/1177م)، وهو من أبرز الأطباء في القدس في العصر الأيوبي، وقد تلقى الصوري عن الشيخ النباتي أبي العباس النباتي في القدس علوم النبات وخصائص النباتات الطبية، حيث عمل في البيمارستان الذي أنشأه السلطان الناصر صلاح الدين، ومن ثم أصبح طبيب السلاطين الأيوبيين، حيث طبب لكل من الملك العادل أبي بكر، والملك المعظم عيسى والملك الناصر داود.
ومن أطباء القدس رشيد الدين بن يعقوب (ت 646هـ/1248م)، وعبد السلام بن أحمد المقدسي المعروف بابن غانم (ت 678هـ/1279م)، وغيرهم.
وفي سياق الاهتمام بعلوم الطب والصيدلية، يشكل الاهتمام بالمشافي انعكاساً عن حجم تطور هذه العلوم في المدينة، ومن أبرز البيمارستانات في القدس، بيمارستان الوليد بن عبد الملك، الذي ألحق بدار الضيافة، لكنه كان مفتوحاً للمرضى على اختلاف طبقاتهم. ومنها ما ذكره الرحالة عن البيمارستان الفاطمي في القدس (395ه/1004 م)، وكان يقدم العلاج والدواء للمرضى، وقد أوقف على المشفى أوقافٌ عظيمة، تُغطي حاجات المرضى، ورواتب الأطباء وغيرها، وممن تولى الإشراف على هذا البيمارستان عبد الجليل بن عمر المقدسي المعروف بابن الخواتيمي الطبيب، وقد بقي البيمارستان يعمل زهاء قرنٍ من الزمن حتى الاحتلال الصليبي للقدس عام 492 هـ/1099 م.
وبعد التحرير الصلاحي للقدس أمر السلطان صلاح الدين يوسف ببناء بيمارستان يُعالج فيه المرضى وجلب إليه نفائس الأدوية والعقاقير، وتم إنشاؤه عام 583هـ/1187م، وعُرف بالبيمارستان الصلاحي وأشرف على تشييده القاضي ابن شداد، وكان أول من أشرف على شؤونه يعقوب بن صقلاب النصراني المقدسي الشرقي الملكي (ت 625هـ/1228م)، وأوقف صلاح الدين على البيمارستان عقارات عظيمة من بينها مخازن وبيوت وأفران ودكاكين وطواحين وآبار وأراضٍ زراعية من أجل تطويره والقيام بحاجاته. وتُشير المصادر إلى تحول البيمارستان إلى جامعة طبية، يتلقى الطلاب فيها العلوم المتصلة بهذا الشأن، ويتلقى الطلاب تدريباً عملياً، إضافة إلى التلقي النظري عن أساتذتهم.
وإلى جانب الطب شكلت الرياضيات وما يتصل بها من علوم، جزءاً أساسياً من الحركة العملية في القدس، ومن أبرز علماء القدس النابغين في الرياضيات العلامة أحمد بن محمـد بن عماد (753 – 815هـ/1352- 1412م)، الذي يُعرف بابن الهائم الحاسب، وهو إلى جانب كونه من كبار فقهاء الشافعية في زمانه، برع في علوم الرياضيات والفرائض، وابتكر نظرياتٍ جديدة في الحساب والجبر والمقابلة، ما زالت العديد منها مستخدمةً في وقتنا الحاضر، وترك العديد من المصنفات في الرياضيات وعلوم الفرائض ومكث في القدس وتوفي فيها.
ومن مؤشرات الاهتمام الإسلامي المقدسي بعلوم الجبر، إدراج القائمين على المدرسة الصالحية متوناً علمية تُدرس للطلبة، منها كتاب شرح "الياسمينة" وكتاب "مرشدة الطالب إلى أسنى المطالب" و"المعونة في الحساب"، وجميعها من تأليف العلامة ابن الهائم. ومما يتصل بهذا العلوم، كانت المواقيت من العلوم الأساسية لطلاب المدرسة الصلاحية، حيث يصبح الطلاب قادرين على معرفة منازل القمر ومواقع الظلال.
ومن العلوم التي نبغ فيها المقادسة علوم الرحلة والجغرافيا، وفي مقدمتهم شمس الدين محمـد بن أحمد بن أبي بكر البشاري المعروف بالمقدسي (ت 390 ه/1000م)، الذي يعدُّ من أعظم الجغرافيين في الإسلام وفي العالم، ويقول عنه المستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر إنه "أكبر جغرافي عرفته البشرية قاطبة"، ويقول "لم يسبقه شخصٌ في اتساع مجال أسفاره، وعمق ملاحظاته، وإخضاعه المادة التي جمعها لدراسة منظمة"، هذه شهادة واحدة من العديد من شهادات المستشرقين فيه، وهي تدلّ على درجة الإتقان التي بلغها المقدسيّ.
وترك المقدسي واحدة من أهم الموسوعات الجغرافية في تلك المرحلة وهو "أحسن التقاسيم بمعرفة الأقاليم"، ويصف الكتاب أحوال العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري، ويذكر في كتابه وصف الأمصار التي يزورها، وطرقها وما يتصل بها من آلات وتجارات، إضافة إلى طعام السكان وشرابهم، والعناصر الطبيعية من جبال وسهول وغيرها، وهو ما يقدم معلومات واسعة عن هذه الأقاليم، على الرغم من اهتمام المقدسي بالعنصر السكاني البشري، ما يجعله رائداً مبكراً في هذا المجال.
ولا تقف الريادة العلمية المقدسية على ما أوردناه في هذا المقال فقط، حيث تزخر المدينة بنماذج عديدة أخرى، في علوم الفلك والتاريخ وغيرها، ما يؤكد أن القدس كانت واحدةً من حواضر العلم والمعرفة في العالم الإسلامي، وأن الدور الحضاري للمدينة يُمكن استعادته إن تضافرت العوامل اللازمة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.