لطالما افتقدت الأعمال الفردية، رغم قدرتها على تحريك الوجدان، والتذكير بأهمية اتخاذ الخطوات، والعمل على تحشيد الرأي والعواطف، ولطالما افتقدت للاستمرار وتحقيق الديمومة وإحداث الفرق المطلوب.
حيث إنها تُستنزَفُ أمام العمل المنظم والمنظومة الشاملة المتكاملة، وتموت إذا لم تجد الرعاية والحاضنة، أو إذا لم تتشكل حولها منظومة تحميها من الاندثار.
ما دفعني لقول ذلك في السطور السابقة، هو ذلك الثوران الشعبي الذي يحدث، في كل مرة، على مُنتَجٍ من منتجات المنظومات التي نواجهها ونعيش في كنفها.
وهنا أتطرق للجانب الإعلامي الذي أصبح غذاءً يومياً، بل مُستهلكاً زمنياً يُقاس بالدقائق والثواني. إذ ينحاز الكثير منا يومياً عن أعماله وواجباته وهمومه إلى إبهامه الذي يقلب شاشة الهاتف المحمول مُقلّباً الفيديوهات الصغيرة المسماة "ريل"، ويكادُ يفني وقته في تقليب غير مفهوم وجوعٍ دائم للجديد من المحتوى السريع والوجبات الخفيفة.
ثم إذا نظرنا إلى منظومات عملاقة كمنصات التواصل الاجتماعي، ندرك أننا مهما حاولنا أن نُحدِثَ الفرق أو نتجاوز ما تفرضه علينا بأدواتها، نجد أننا أمام نَفَسٍ يضخ فينا الأمل في بداياته، ثم يذوب في دهاليز منظومات تفرض عدد الإعجابات ومرات المشاهدة معياراً مُطلقاً على كل معايير المحتوى والجودة و الفكرة.
وترى الكثير من الاعتراضات والثورات على محتوى أصحاب التأثير وموجات تظهر في تريند هنا أو قضية هناك، لكنها تغذي أصحاب الجدل وتحرك اللوغاريتمات، وتخدم المنظومة، وينسى الجمهور في غمرة من تتابع الأحداث ما ثاروا لأجله وما اعترضوا عليه، بل يعود مستمراً في إغداق المتابعة والإعجاب لأولئك الذين اعترض عليهم قبل سويعات عندما كان التريند قائماً.
واليوم في منظومة الأفلام والسينما، تطرح منصة الأفلام الأشهر أفلاماً، يثور لأجلها الكثير ممن يتحفظ على المحتوى، وهو ينسى أنه يدعم المنظومة بالاشتراك والمشاهدة وإثارة الجدل عنها.
بينما تتوارى الكثير من الأفلام بعيداً في زوايا الوصول، ولا يُكتب لها المنافسة أو الحضور، رغم جمال المحتوى وريادية الفكرة وجرأة الطرح، وهي جرأة في اتجاه لا يشبه اتجاهات المنصة المشهورة، ولا ترضى عنه تلك المنصة.
إن قدرة المنظومة الكبيرة على طحن المبادرات الفردية والمقاومة المستقلة، تجعل الكثير من أولئك طامحين للهجرة إليها، وبالتالي الوقوع تحت سلطانها وقوانينها، وتدجينها إياهم.
وتصبح مع الوقت هي الهدف الأسمى للفنان الباحث عن الوجود والحضور والانتشار، تماماً كالمؤثر الباحث عن عدد المشاهدات والإعجابات، فهي ستترجم لاحقاً إلى فائدة مادية تعود بالنفع والاستمرار على صاحبها، ويكون المحتوى والفكرة والجمهور هم ضحايا المنظومة واتجاهاتها التي لا ترتضيها الكثير من المجتمعات على اختلاف بقعها الجغرافية وتوجهاتها الفكرية.
إنّ الاكتفاء بنقد المنظومات أو الدعوة الى التحذير منها على أهميته، لا يُجدي نفعاً، ولا يُعد كافياً في إيقاف هذا المد الجائر والتغول الكبير على أفكارنا وتفاصيل حياتنا ونمط العيش المراد له أن يكون، بل إن الوقوف مع الأصوات المقاومة والمنتجة وتأطيرها داخل منظومة تتحرك باستراتيجية واضحة ولا تكتفي بردة الفعل، هو الأمل الذي يمكن له أن يعطي الخيارات للمستهدفين من قبل منظومات المال والإعلام والسياسة والفكر والشهرة، وإلا فإن جهودنا المستقلة وآراءنا المنتقِدة، ستتبخر مع عامل الزمن وكثافة المطروح وقلة الدعم، لأن المنظومة هي التي تفوز دائماً.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.