يرى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أن المشكلة الأساسية تتمثل فيمن يرفض الحقيقة لأنها فقط تتعارض مع قناعاته أو معتقداته الراسخة، وليست في الأكاذيب التي حتماً يُكشف زيفها يوماً ما، حتى إن تأخر ذلك.
فاعتقادك بأن "قناعتك" هي "حقيقة" بنسبة 100%، قد يجعلك تأخذ قراراً خطأً أو تظلم أو تستبيح أي شيء، في حين أن هذه القناعة من الممكن جداً أن تكون غير صحيحة أو غير دقيقة، ولا تتطابق مع الحقيقة أو الواقع: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].
إذاً الخطورة الحقيقية هنا تكمن في أنك لن تعرف أبداً أن ما تعتقده صحيح وتقتنع به قناعة كاملة؛ يمكن أن يكون "أكذوبة" أو "خلاصة معلومات مجتزأة وغير دقيقة"، أو "تضليلاً" قدمته لك البطانة الفاسدة -التي تراها أنت أصلح القوم- على أنه الحقيقة المطلقة.
وقد يكون "استبداداً" يجعل القائد يُعظم نفسه وقدراته، فيرى أفكاره وقناعاته "حقائق قطعية" لا يمكن النقاش فيها أو تعديلها، بل يراها أحياناً عميقة وفوق مستوى عقول الآخرين؛ بحيث لا يمكن للعامة فهم فحواها ونجاعة القرارات المترتبة عليها: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29].
الاستبداد يقلب الحقائق ويسوق الناس إلى الاعتقاد أن طالب الحق فاجر
لا ينتهي الأمر عند تحول القائد المستبد لتعظيم نفسه وقدراته، وأن يرى أفكاره وقناعاته "حقائق قطعية" لا يمكن النقاش حولها، بل تصبح قناعات القائد أو الحزب بمثابة "حقائق مقدسة" بالنسبة للأتباع والموالين والمنتفعين دون أدنى محاولة منهم لإعمال العقل في التثبت من حقيقة هذه القناعات، هنا بالتحديد قال "نيتشه": "كل الأشياء خاضعة للتأويل، وأيّاً كان التأويل فهو عمل القوة لا الحقيقة".
ولماذا لا نستشهد بعلمائنا؟!
فقد ناقش عبد الرحمن الكواكبي -أحد رواد النهضة العربية ومفكريها في القرن الـ19م- هذه القضية في كتابه المشهور "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" قائلاً: "الاستبداد يقلب الحقائق في الأذهان، فيسوق الناس إلى اعتقاد أن طالب الحق فاجر، وتارك حقه مُطيع! والمشتكي المُتظلِّم مُفسِد، والنبيه المُدقق مُلحد، والخامل المسكين صالح!".
ولمّا أراد الكواكبي أن يوضح لنا فساد قناعات أتباع المُستبدين؛ قال: "من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحُكام عن المسؤولية، حتى أوجبوا لهم الحمد إذا عدلوا، وأوجبها الصّبر عليهم إذا ظلموا؟!". إذاً الخصومة الكبيرة بين (الحقيقة × القناعات الراسخة) تزداد خطورة وحساسية، وقد تترتب عليها نتائج وخيمة؛ عندما يكون صاحب هذه القناعات قائداً أو مسؤولاً يتحكم في صنع القرار، ويتبوأ مكاناً مهماً وحساساً في تدبير حياة الناس وﺣﻮﺍﺋﺠﻬﻢ، وسياسة شؤونهم وأرزاقهم.
فقيام القادة أو الأحزاب السياسية مثلاً في أي دولة باختيار وتصدير شخص ما لتولي مناصب الوظيفة العامة وقيادة الوزارات المهمة في حياة الناس، أو ترشيحهم لآخر حتى يكون نائباً عن الشعب حامياً لحقوقه من خلال البرلمان؛ يجب أن يتولد هذا الاختيار بناءً على الحقيقة والصواب التي تقتضي لمناصب إدارة الشأن العام معايير دقيقة مختلفة تماماً عن المعايير والقناعات الحزبية، كالأهلية العلمية، والتخصصية المهنية، وتوفر الخبرة والكفاءة اللازمة لهذا المنصب، وامتلاك القدرات الإدارية والقيادية، بالإضافة للأمانة والصلاح والنزاهة وحسن السمعة وغيرها بحسب المنصب أو الموقع الوظيفي: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
القائد الحقيقي هو من ينشد العدالة
فلا يكفي مطلقاً أن ينبني الاختيار على أساس القناعات الحزبية الراسخة بهذا الشخص أو ذاك، التي قد يكون مبعثها فقط: درجة الولاء والانتماء للحزب ومسيرة النضال والتضحية المشتركة وكفاءة هذا الشخص وفعاليته داخل الحزب.
باعتقادي ومما سبق أننا بحاجة إلى القائد والمسؤول الذي ينشدُ تحقيق العدالة الناجزة وإرساء قواعد ومرتكزات الحكم الرشيد في أي مؤسسة يترأسها؛ بما يوفر له سلامة الوصول إلى "الحقائق المجردة" خلال مسيرة العمل، حتى يرتكز عليها في تقديم المعالجات الصحيحة الصائبة بعيداً عن القناعات والاعتقادات الشخصية خلال ممارسة الإدارة والقيادة.
لن أنسى أبداً يوم أن سألت شيخي الذي أثق بعلمه: لماذا نقول في دعائنا: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه"؟ أليس الحقُّ واضحًا أبلجَ؟! فأجاب: "لأن الشيطان قد يُري الإنسان الحق باطلاً والباطل حقاً إذا استحكم القلبَ الهوى أو حُرم الهداية والعياذ بالله".
وأضاف أن الحق واضح لمن هداه الله وأنار بصيرته، وقد يكون في حق غيره بخلاف ذلك؛ ثم أوجز بسؤالي: ألا ترى أن بعض القوم من حملة أعلى الشهادات الدنيوية يعبدون البقر والجرذان والعياذ بالله!!
ختاماً..
من باب العدالة والإنصاف وعملاً بجوهر هذا المقال؛ قد يكون بعض ما أشرت إليه في هذه السطور قد جانب الحقيقة والصواب، ولا يتعدى كونه قناعات تكونت لدي بناءً على مستوى الثقافة التي أملكها أو قدر المعلومات والمعرفة التي أحطتُ بها عن الموضوع. والله أعلم وأحكم.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.