إن الرأسمالية ترى هذا الكوكب ولا تراه، فهي ترى في خيراته وكائناته وسيلة للإنتاج، ولكنها لا تراه وهو يدمر يوماً بعد يوم، وكائناته تنقرض الواحد تلو الاَخر، وأعظم مخلوقاته ينهار مادياً ومعنوياً ولا يكاد يجد ما يبقيه حياً، ويزداد عذابه وغيظه حين يرى أن معاناته، وموت من يحب مرضاً وإهمالاً، سر من أسرار تفوق الاَخر، ويكتشف أن الرأسمالية التي تحكمه "رأسمالية الموت".
إن الاستثمار المربح ليس الاستثمار في السلع والخدمات، بل الاستثمار في الاَلام والجراح، والاستثمار في الفوضى هو الاستثمار الأفضل.
وفي هذا الصدد نورد قولاً لأحد أصحاب الشركات المتخصصة في الأمن -بشكل أوضح شركة مرتزقة تعمل في أفغانستان-، يقول هذا الشخص المسمى جاك: إن شركته "تبقى على قيد الحياة بفضل الفوضى (عقيدة الصدمة "صعود رأسمالية الكوارث"، نعومي كلاين).
ليست أفغانستان سوى مثال بسيط، وليست شركة هذا الرجل سوى شركة من ألوف الشركات المتناثرة في العالم، والتي تتغذى على أحزان الناس وماَسيهم بدعم كامل من العدو الأول للإنسانية "الولايات المتحدة الأمريكية" كما يصرح الأمريكيون أنفسهم، وعلى رأسهم عالم اللسانيات ناعوم تشومسكي.
فبعد أحداث 11 سبتمبر قدمت الولايات المتحدة الأمريكية نظرتها لمشاكل العالم ولخصتها في أمر واحد "الإرهاب"، وبهذا فرضت رؤيتها الضيقة على شعوب العالم، وبهذا بدأ الكل يتسابق من أجل القضاء على العدو الجديد، فباتت مشاكل العالم الحقيقية من جوع وفقر وبطالة وانتحار أموراً تافهة أمام رجل بلحية طويلة!
وهكذا عوض أن تهتم الدول المتخلفة بمشاكلها الاقتصادية انضمت إلى الحملة الأمريكية التي تستهدف البحث عن هذا الرجل في كهوف أفغانستان، ومطار بغداد الدولي.
وإنه لأمر مضحك ومؤسف في الاَن نفسه، فالمضحك فيه، كون الدول تعامل أمريكا وكأنها إله لا تُعصى أوامره، مع أن العالم يعرف أن طموح سياسييها يدور كله حول النفط والغاز الطبيعي، والمحزن أن دولاً تغرق في الفقر والبطالة ويرمي شبابها بنفسه في البحر، تدفع الأموال لأجهزة مكافحة الإرهاب، ولا تضع فلساً واحداً في التعليم والصحة، وتترك شبابها عُرضة للتيارات الفكرية المتطرفة يميناً وشمالاً.
إن الحرب على الإرهاب تغطية للفشل الذريع الذي تعيشه حكومات العالم، وخطة جيدة للسيطرة على اَبار النفط في الشرق.
وهذا لا يعني أن الإرهاب لا يشكل تحدياً دولياً وخطراً يهددنا جميعاً، ولا أننا ضد يقظة الدول مع الجماعات المتطرفة يميناً وشمالاً، إلا أن المطلوب وضعه جنباً إلى جنب مع المشاكل الأخرى التي تهدد مجتمعاتنا على رأسها الفساد والزبونية وغياب العدالة الاجتماعية.
اطردوا البنك الدولي
أظهرت كورونا لنا جميعاً أن الفقراء وحدهم من يدفعون ضريبة الأزمات، ففي وقت الرخاء تغدق الحكومات على البرجوازية؛ فترفع دعمها وتقلل ضريبتها، ولا يصل إلى الطبقات الدنيا سوى الفتات، حتى إذا جاءت الأزمة نظرت الدولة حولها فلم تجد سوى الفقراء، وتحت شعار الوطنية والوطن أم، وتحت سلطة إعلامها تقنع الفقراء بضرورة دفع ضرائب أكثر أو خفض الأجور، ولمَ لا تقبل الجوع، أو أكل أرجل الدجاج!
المؤسف أن هذا يتكرر كل يوم وفي كل بقاع العالم، فقبل مدة دخلت لبنان عالم الإفلاس، وبعدها سريلانكا، واليوم مصر تعاني من حمى الإفلاس، التي لن توقفها أموال الخليج ولا هبات أمريكا، فهي أعمق من أن تخفف حدتها المسكنات.
إن الملاحظ في كل هذه النماذج أن قرارات حكوماتها نسخ طبق الأصل، وكل دولة من هذه الدول، وحتى من دول أخرى أفلست سابقاً، طبّقت، بشكل أو بآخر، توصيات البنك الدولي.
وصندوق النقد الدولي هو منظمة دولية تأسست بعد الحرب العالمية الثانية 1945، بهدف مساعدة الدول على النهوض وإعادة بناء اقتصادها، لكنه اليوم، وحسب كثيرين، لم يعد منظمة دولية، بل أصبح اليد اليمنى لأمريكا في العالم. يد تدفع المال وأخرى تهدم البنيان والإنسان.
وقد كشف جون بركنز (جون عميل سابق في البنك المشؤوم) في كتابه "الاغتيال الاقتصادي للأمم" طرق عمل البنك، وكيف تسببت سياساته في تدمير اقتصادية عدة دول.
ولست أول شخص، ولن أكون آخر شخص، يتحدث عن مساوئ البنك الدولي، وحتى لو خرج الكل ضده، فإن الحكومات ستظل وفية لجنابه، وخاضعة لسلطانه، ولو فرض عليها سياسات هدامة من قبيل رفع اليد عن الصحة والتعليم، وضرب القدرة الشرائية للمواطنين، وفرض ضرائب مجحفة.
فالعلاقة التي تجمع بين هذه الحكومات والبنك هي علاقة وجود، فلا فكاك بينهما.
وفي الوقت الذي يفكر مسؤول ما شهم ووطني في أن يرفض إملاءاته، فإن البنك المشؤوم وعبر عملائه المندسين في كل شبر من الدولة يسقطونه ولا بد، وقد حدث هذا في الماضي وسيحدث مستقبلاً.
فلا فلاح إذاً لدولة يرعاها البنك الدولي، وأول شعار يجب أن يُرفع فوق كل بيوت الكادحين ويملأ وسائل التواصل الاجتماعي هو: "لا للبنك الدولي".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.