بحكم عملي وكتابتي في مجال الصحة النفسية، وشغفي المستمر في القراءة بها، توقفت كثيراً لما كشف عنه معجم Merriam Webster الأمريكي بأن كلمة gaslighting (التلاعب النفسي) هي كلمة العام بمعنى أنها الكلمة الأكثر بحثاً على الموقع في عام 2022.
بشكل أو بآخر أصبحت السوشيال ميديا ووسائل البحث عبر الشبكة العنكبوتية تعكس الكثير مما يفكر به الناس، وما يعايشونه، لذا فلم يفتنني التوقف والبحث عن معنى التلاعب النفسي، وكيف يتم، وما أسبابه، وغيرها من المعلومات التي نستعرضها.
حكاية شخصية
منذ أيام، وتحديداً في الأول من ديسمبر 2022، أتممت عامي الثالث والثلاثين، فرصة أن يكون عيد ميلادك في نهاية العام أنك تقوم برصد الأحداث للعام مرة واحدة، فبالفعل أنهيت عاماً من عمرك والعام بالفعل في نهايته.
كنت أفكر في واحدة من أصعب المواقف التي مرت عليّ هذا العام، وهو عندما التحقت بالعمل بأحد المواقع الإخبارية التي لا تتطلب سوى مهارة كتابة متوسطة والتزام بالوقت، تعلمت العمل سريعاً وبدأت بالإنجاز وتحقيق المطلوب، لكن هذا لم يرُق لبقية الفريق، فبدأوا بالتقليل همساً من شأن الكتابة وجودتها، وتصريحاً ببعض الألش والمزاح السخيف على طريقتي، أدى ذلك بالنهاية إلى تقديمي استقالتي من الموقع بسبب تصديقي لهم أنني دون المستوى المطلوب.
هذا تحديداً وببساطة إحدى صور التلاعب النفسي التي تتم في مجال العمل، أما عن التعريف العلمي، فهو كالتالي:
ما هو التلاعب النفسي؟
يُعرف التلاعب النفسي بأنه استهداف شخص أو جماعة من أجل تمرير بعض الممارسات والمعتقدات والأفكار إليهم، التي على الأغلب تكون خاطئة أو غير موافقة لرغباتهم الشخصية، وذلك من أجل إحكام السيطرة عليهم، أو من أجل ترسيخ معتقد أو فكرة على تلك الجماعة وترسيخها داخل عقولهم كأنها أمور مسلّم بها وحقيقية.
ويرى علماء النفس أننا جميعاً، وفي أوقات مختلفة وأدوار متباينة من حياتنا، نمارس بعض أنواع التلاعب النفسي، مثلاً فإن الطفل الصغير الذي يصرخ من أجل الحصول على شيء ما، فهو بذلك يمارس التلاعب النفسي على والديه من أجل إجبارهما على تنفيذ ما يريد، والوالدان يتلاعبان أحياناً بأطفالهما عن طريق فرض بعض القواعد والمسلّمات، من أجل أن يصدقها الأطفال ويشرعون في تنفيذها، يمارسان نوعاً من التلاعب عليهم.
كما يجب أن ننتبه إلى أن التلاعب النفسي لا يتم فقط في المجتمعات الصغيرة، مثل الأُسر وأماكن العمل، لكنه قد يتم على نطاق أوسع في المجتمعات، في العديد من المجالات مثل السياسة والإعلام، حيث يريد المقيمون على تلك الأمور بإقناعنا بما يرون وما يعتقدون، ويسخّرون كل الوسائل المتاحة لهم من أجل إحكام السيطرة على العقول، وتكوين وجهة نظر عامة توافقهم الرأي.
ماذا عن العلاقات العاطفية؟
على الرغم من أن التلاعب النفسي يمكن أن يتم في أي من مجالات الحياة كما ذكرنا، إلا أنه تظل أبرز صوره في العلاقات الاجتماعية القريبة، حيث يمكن ملامسته بسهولة، خاصة في العلاقات التي تتميز بالقرب والحميمية، كعلاقات الأزواج أو الأحباب، وكذلك العلاقات بين الآباء والأبناء… فكيف أعرف أنه يتم التلاعب النفسي بي؟
علامات تدل على أن مَن أمامك يتلاعب بك نفسياً
هناك بعض العلامات التي عليك الانتباه إليها في أي علاقة تمر بها، وأن تعلم أن من يمارسها يود إرغامك على تصديق بعض الأمور والتسليم بها كمعتقدات، على الرغم من أنها ليست سوى من نسج خياله.
من أهم تلك العلامات ما يلي:
1- تزييف الحقائق
كما ذكرت في الحكاية الشخصية الخاصة بي، كانت الأخبار التي أكتبها تلقى مشاهدات كبيرة، مما يعكس جودة الأسلوب وطريقة الطرح، لكن كانت بعض تعليقات فريق العمل ترجع القراءات لكون المواضيع "ساخنة"، بحد قولهم، وأن الناس تريد أن تعرف وأن مستوى الكتابة عادي… ويمكنك القياس على كل شخص يحاول أن يفرض على تفكيرك بعض الأفكار غير الواقعية من أجل أن يصل لما يريد.
2- اتهامك الدائم بأنك شخص صعب المراس
تمارس تلك العلامة تحديداً بين الأشخاص المرتبطين عاطفياً سواء كانوا أتموا الزواج أم في المراحل السابقة له، فترى الرجل يفرض سيطرته على الفتاة من خلال إبراز الكثير من عيوبها، سواء كانت تلك العيوب موجودة أو مختلقة، لكنه دائماً وفي أي وقت يذكرها بها حتى تتعامل معها على كونها حقيقة.
3- السخرية الحادة والمزاح السخيف
يسعى الشخص المتلاعب بغيره دائماً بأن يقلل من شأن الآخر، ولا يتوانى في استخدام أي وسيلة في ذلك، ومن بينها المزاح الشديد والسخرية الدائمة من أفكارك ومعتقداتك، وإمعاناً في التلاعب قد يتهمك بأنك شخص مفرط في الحساسية، ولا تحب المزج إن انتبهت وعاتبته أو أعلنت رفضك لما يقول.
4- التلاعب بالأحداث
لدى الشخص المراوغ القدرة على تكييف الأحداث وفقاً لما يريد وليس كما حدثت، فتجد الكثير من التفسيرات المغايرة التي يقف أمامها التفكير الطبيعي مذهولاً.
أتذكر ذات مرة حكت لي صديقة- كنت وقتها لا أعلم أنها تصل لدرجة الامتياز في التلاعب النفسي والمراوغة- عن موقف يجمعها بصديقة أخرى، وكان تفسيرها للموقف ما هالني، فكمية التفسيرات الغريبة وربط الأحداث وافتعالها بطريقة غير متوقعة أوقفني صامتة؛ لأن عقلي لم يستوعب في حينها ما قالته.
5- تقديم الإنذارات والشعور بأنه لا وقت أمامك
تقدم منذ زمن لإحدى قريباتي رجل للزواج، كانت مترددة للغاية، ولكن أباها المعروف عنه رغبته في وجود نسب مع عائلة الشاب أخبرها أن أمامها فقط بضع ساعات الليل لتخبره بقرارها في الصباح، تعد تلك إحدى طرق التلاعب النفسي.
يمثل الضغط في الوقت وتمكين الشعور بعدم وجود مساحة للتفكير لأي شخص أسلوباً للتلاعب به، فتحميل من أمامك بأن الوقت ضيق وعليك اتخاذ قرار مهم في أسرع وقت.
1- التقليل من أفكار الآخر وطريقة عرضه لها
"لا أفهم ما تقوله" كلمة شهيرة تعكس عدم قدرة الشخص على توصيل أفكاره وعرضها، ومن ثم تعزيز الشعور الداخلي له بضحالة تلك الأفكار والتقليل منها.
2- ترك المساحة لك أن تتحدث أولاً
على الرغم من كون تلك العلامة تحديداً يمكن أن يكون لها معنى إيجابي في بعض المواقف، فإن المراوغ يترك لك الفرصة لتتحدث لكي تتمكن من كشف كل ما يدور في تفكيرك، ومن ثم التمكن من التلاعب به وافتعال الحيل وتزييف الحقائق من أجل إحكام السيطرة على كل أفكارك.
بعد أن عرضنا تلك الأسباب يبقى السؤال: لماذا يلجأ البعض للتلاعب بغيره؟
أسباب التلاعب النفسي بالآخرين
مما لا شك فيه أن التلاعب النفسي بالغير دليل واضح على وجود اضطراب نفسي، خاصة إن كان بطريقة منظمة، وكما ذكرنا فإن حديثنا عن العلاقات الاجتماعية ومن الممكن أن نفرد الحديث مرة أخرى عن أسبابه في المجتمعات الأكبر.
1- الشعور بالنقص وعدم القيمة
واحد من الدوافع القوية للتلاعب بالآخرين هو الشعور بقيمتهم وبأنهم ذوو مكانة حقيقة، ومن ثم فإن الشخص الذي يشعر بالدونية يتمنى في داخله التقليل من شأنهم وإحكام السيطرة عليهم لمحو ثقتهم بأنفسهم.
2- عدم الحصول على حب غير مشروط في الطفولة
يُرجع علماء النفس أغلب مشاكل واضطرابات الشخصية إلى مشاكل الطفولة، وتحديداً فإن شعور الطفل بأنه لا يحب إلا بعد تنفيذ بعض الأمور يجعله يعتقد أن تلك هي الطريقة للحب، ومن ثم لا يدخل في أي علاقة إلا بوجود شروط، وبوجود يد مسيطرة على العلاقة، وبالطبع يسعى لأن يكون هو تلك اليد.
3- تحقيق المصالح الشخصية
نتيجة طبيعية لفرض السيطرة على الآخر من خلال جعله يعتقد فيما تريد يجعل لديك اليد العليا في العلاقة، فترى الزوج الذي يقنع زوجته بأنه وحده من يخاف عليها، فلا أهل يحبونها، وإخوتها يتمنون لها الشر وصديقاتها يغرن منها، فيصبح الرجل هو المسيطر الوحيد والكامل على شكل العلاقة بينهما.
4- الفشل والصدمات المتكررة
قد يدخل الشخص في علاقات متعددة، تنتهي جميعها بالفشل، مما يسبب له الصدمة فيتخذ القرار بالنهاية بأن يكون المتحكم في أي علاقة قادمة، ومن ثم يشرع في التلاعب النفسي بشريكه من أجل تجنب الصدمات مرة أخرى.
لذا يُعدّ التلاعب النفسي، وكما قالت لي صديقة ذات مرة، مثل الأمراض التي تنتشر في الجسم، ولا تظهر في بدايتها إلا بعد توغل الأعراض، فالحال كذلك مع التلاعب النفسي، نادراً ما تنتبه إلى أنه يمارس عليك إلا في مرحلة متأخرة منه، لذا نتمنى أن تكون كلماتنا مساعدة في الاكتشاف المبكر، ونتمنى عاماً جديداً بلا تلاعب نفسي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.