في مطلع يناير الجاري، تم الإعلان عن تعيين الجنرال إيال زامير مديراً عاماً لوزارة الدفاع الإسرائيلية، ضمن التغييرات المواكبة لتشكيل حكومة نتنياهو الجديدة، كما أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن نتنياهو سيزور أبوظبي خلال الأيام القادمة؛ لبحث عدة ملفات، من بينها الملف الإيراني. واللافت أن كلا الخبرين يتقاطعان معاً، فالجنرال زامير شغل عدة مناصب عسكرية رفيعة، من أبرزها منصب نائب رئيس هيئة أركان الجيش، كما نشر عام 2022 كتيباً عبر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بعنوان (مواجهة الاستراتيجية الإقليمية لإيران: نهج طويل الأجل وشامل)، رسم خلاله استراتيجية تهدف لتقويض النفوذ الإيراني بالمنطقة.
ونظراً لأن منصب زامير التنفيذي الجديد يتيح له الدفع باتجاه تفعيل رؤيته، فسأسعى لشرح أبرز محاورها، لأنها توضح خلفيات الكثير من الأحداث والزيارات والتدريبات الجارية في المنطقة، بما في ذلك زيارة قائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال مايكل كوريلا لإسرائيل 4 مرات خلال الفترة من أبريل إلى ديسمبر 2022، لمناقشة تعميق التعاون العملياتي مع تل أبيب في مواجهة طهران.
استراتيجية إيران في المنطقة
يشير زامير إلى أن العقيدة الأمنية الإيرانية تركز على ضمان بقاء النظام الحاكم منذ ثورة 1979، وهو ما يتحقق عبر نقل القتال إلى أراضي العدو وإنشاء حزام أمني خارجي لمنع وصول التهديدات إلى العمق الإيراني بهدف تجنب تكرار تجربة الحرب مع العراق (1980-1988)، التي خلفت خسائر بشرية باهظة، وتركت صدمة مجتمعية عميقة.
ولتحقيق ما سبق، تعمل طهران بمرونة وصبر على توظيف التطورات الإقليمية والجيوسياسية لإيجاد الفرص واستغلالها عبر السير قرب الحافة دون تجاوز الخطوط الحمراء، سعياً لأن تصبح قوة مهيمنة في الشرق الأوسط. وضمن ذلك تعمل إيران على تطوير برنامجها النووي، وترقية قدراتها العسكرية، وتوسيع نفوذها من خلال بناء جيش إقليمي بإجمالي يبلغ نحو 200 ألف مقاتل تحت اسم "محور المقاومة"، ويتكون من عدة جماعات في دول متنوعة مثل حزب الله في لبنان، وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، والحوثيين في اليمن، والنجباء وعصائب أهل الحق في العراق، ولواء فاطميون الأفغاني، ولواء زينبيون الباكستاني.
بحسب زامير، فإن المحور الذي يربط إيران بلبنان براً عبر العراق وسوريا، ويوصلها إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط وحدود فلسطين، فضلاً عن البحر الأحمر ومضيق باب المندب بواسطة الحوثيين في اليمن، يتيح لها نقل أعداد وكميات كبيرة من القوات والأسلحة والمؤن بسهولة وسرعة، ويمكنها من ردع القوى الإقليمية الأخرى واستهدافها حين اللزوم بشكل غير مباشر من مسارح عمليات متعددة، مثلما حدث في الهجوم على منشآت أرامكو النفطية بالسعودية عام 2019، وقصف دبي وأبوظبي عدة مرات، وقصف إسرائيل نفسها من لبنان وغزة.
استراتيجية مواجهة إيران
يجادل زامير بأن الحرس الثوري هو مركز ثقل النظام الإيراني، إذ يشارك قادته في صنع القرار الاستراتيجي وتشكيل السياسة الوطنية، ويشغل المتقاعدون منهم مناصب رئيسية في الحكومة والبرلمان، كما تسيطر شركات الحرس على نحو 40% من الاقتصاد الإيراني. أما عسكرياً وأمنياً، فالحرس هو خط الدفاع الأساسي عن النظام في مواجهة المعارضة والاحتجاجات الداخلية، كما يملك قدرات متطورة بعضها غير متاح للجيش الإيراني، وكذلك هو المسؤول عن الأسلحة الاستراتيجية مثل مشروع الصواريخ الباليستية، كما أنه المعني بتشغيل أنظمة الدفاع الجوي لحماية منطقة طهران الكبرى والبنية التحتية الحيوية مثل المنشآت النووية. وأخيراً، فالحرس الثوري هو المختص بالتنسيق مع الجماعات الحليفة في الخارج، وتقديم التدريب والمشورة ونقل الخبرة لهم، وهو المشرف كذلك على الأنشطة المزعزعة للاستقرار في الدول المعادية لإيران.
يخلص زامير إلى أن إضعاف الحرس الثوري سيضعف من قوة إيران، بينما عقد أي اتفاقيات مثل الاتفاق النووي قد يتيح لإيران تأجيل طموحاتها النووية بضع سنوات، لكنه أيضاً سيزيل من عليها العقوبات الاقتصادية، مما يجلب لميزانيتها مليارات الدولارات، ويزيد من دعمها لحلفائها الإقليميين.
ويشير إلى أن الجهود المبذولة لمواجهة إيران تتسم بأنها آنية ومفككة، بينما المطلوب بناء استراتيجية متكاملة تتبنى أساليب جديدة للعمل المشترك بين تل أبيب وحلفائها، وتطبق مفهوم "المنافسة طويلة الأمد" الذي يزامن كل الجهود وينسق بين الاستراتيجية والتكتيكات لتحقيق إنجازات تراكمية بمرور الوقت، وتستغل نقاط ضعف الخصم وتحيد نقاط قوته، إلى أن تصل به في النهاية إلى الانهيار والتفكك.
كيف تُهزم إيران؟
يطالب زامير بتبني نهج يكبح توسع إيران الإقليمي، ويجبرها على الانسحاب إلى حدودها، ويضعف قوتها ثقافياً واقتصادياً وعسكرياً، مما يمنع تحولها إلى قوة مهيمنة إقليمياً. وهو ما يتحقق عبر تشكيل محور (أمريكي-إسرائيلي-عربي) سبق أن ساهم نقل إسرائيل عام 2020 من نطاق إشراف "القيادة الأمريكية الأوروبية" إلى "القيادة المركزية الأمريكية" في رسم أولى لبناته، فضلاً عن توقيع اتفاقيات إبراهام للتطبيع مع الإمارات والبحرين.
أيضاً يدعو إلى تحييد نقاط القوة الإيرانية عبر دمج ونشر المعلومات الاستخبارية بين دول المحور المذكور، وبناء شبكة دفاع صاروخي إقليمي مشترك، وتعطيل شبكات وخطوط نقل وإمداد وتهريب الأسلحة الإيرانية بالمنطقة، واستهداف شركات تصنيع الأسلحة الإيرانية عبر هجمات مباشرة وسيبرانية، وممارسة ضغوط اقتصادية لتجفيف الموارد المالية للحرس الثوري وشركاته، وتصفية قادة الحرس وكوادره الفاعلين داخل إيران وخارجها، مما يشعر قادته بأنهم تحت متابعة دقيقة واستهداف مكثف، ويحرج النظام ويثير انتقادات داخلية له.
وبكلمات موجزة يسعى زامير إلى إحاطة إيران بحلقة من النيران الكثيفة، ومقابلة أي ردود إيرانية بتصعيد حازم وردود مكلفة، مما يجعل طهران تتردد قبل تنفيذ أي رد، تجنباً لمزيد من الخسائر.
كذلك يشير إلى أن المحور الموالي لإيران غير متجانس، حيث توجد مصالح متضاربة وخلافات أيديولوجية وسياسية واقتصادية بين مكوناته، وبالتالي يدعو إلى رسم خرائط لمصالح حلفاء إيران، وتحديد الانقسامات الأيديولوجية والثقافية بينهم بهدف عزلهم عنها من خلال المزج بين مهاجمتهم واستقطابهم عبر إبرام صفقات معهم، وذلك لإرسال رسالة لهم مفادها أن كلفة التحالف مع إيران أكبر من الايجابيات.
ففي سوريا، يقترح ممارسة توجيه تهديدات لبقاء نظام بشار الأسد بهدف دفعه إلى فك تحالفه مع إيران أو على الأقل إجباره على طرد القوات الإيرانية من سوريا مقابل تقديم جزرة المساعدات المالية. كما يدعو إلى ممارسة ضغوط اقتصادية على الحوثيين، بالتزامن مع عرض صفقة سياسية جذابة لإنهاء الحرب مقابل فك ارتباطهم مع طهران.
وفي العراق، يدعو إلى تعزيز الهوية العروبية، ودعم الجماعات الكردية، وتعزيز الحراك الشبابي المناهض للفساد ولهيمنة الفصائل الموالية لإيران، مما يضعف قبضة طهران ويحرمها من قاعدة عمليات أمامية إقليمية تتيح لها فتح جبهات جديدة في الخليج وتهديد المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
وفي لبنان، يدعو أمريكا وشركاؤها الأوروبيين ودول الخليج ومصر إلى تقديم مساعدات اقتصادية وفي مجال الطاقة لبيروت مع اشتراط إضعاف حزب الله وعزله اقتصادياً ومجتمعياً، فضلاً عن إضعافه عسكرياً بواسطة هجمات إسرائيلية حال الحاجة لذلك. وفي فلسطين يدعو إلى تعزيز حصار حماس، وتحييد عوامل قوتها العسكرية مقابل دعم من يسميهم بالمعتدلين الفلسطينيين.
يشدد زامير على أن المعركة أولاً وقبل كل شيء معركة وعي، وأن تشكيل الرأي العام أكثر أهمية حتى من القتال بالسلاح، ولذا يدعو إلى شن حملة أيديولوجية ثقافية لكسب قلوب وعقول طوائف المنطقة وقبائلها وجماعاتها السكانية بطريقة تسلط الضوء على ما يسميه بالإسلام المعتدل في مقابل الاستبداد الشيعي بإيران. كما يدعو إلى إضعاف التماسك الداخلي في إيران عبر تعزيز النزعات الانفصالية لدى المواطنين من ذوي العرقيات البلوشية والكردية والعربية، وتشجيع الصراعات بين الأجيال، وبالأخص لدى جيل الشباب والطلاب في مواجهة الطبقة الدينية.
وأخيراً يؤكد على أن النجاح في تنفيذ تلك الاستراتيجية متعددة الأبعاد يتطلب مزامنة العمل، وتنسيق الجهود، وتوزيع الضغط على ساحة اللعب بأكملها ليشمل إيران وشركاءها، وهو ما يفترض أن تشرف عليه القيادة المركزية الأمريكية عبر إعداد خطة عمل شاملة، ثم توزيع المهام على حلفاء واشنطن بالمنطقة.
إن فرص تحويل الخطة المذكورة إلى واقع كبيرة مع وصول نتنياهو لسدة الحكم، واستعانته مجدداً بزامير الذي عمل معه في حكومات سابقة كمستشار عسكري يقدم له المشورة، ويرسم الاستراتيجيات، فضلاً عن أن العديد من مقترحاته تنفذها إسرائيل بالفعل بداية من الغارات المكثفة على الوجود الإيراني في سوريا، وصولاً إلى دعم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في إيران على خلفية وفاة الشابة مهسا أميني.
ولكن حجم النجاح في التطبيق سيعتمد أيضاً على الاستراتيجية المضادة التي تتبناها طهران، إذ يبدو أنها عزمت على الاستعانة بالحليف الروسي لمواجهة الضغوط المتزايدة عليها من كل جانب. وفي المحصلة يبدو أن عام 2023 سيشهد مزيداً من التصعيد في المنطقة، في ظل تربّص تل أبيب بطهران، وعزمها على تكسير أذرعها، وتقويض نفوذها الإقليمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.