فكرت كثيراً قبل كتابة هذه السطور، هل أكتب لأنني أرد الدين لصاحبه أم لأنني لدي ما أقوله بالفعل!
منذ فترة ظهرت مشاركة على تويتر للإعلامي المصري شريف عامر ينتقد فيها الأعمال الدرامية المأخوذة عن الأعمال الأدبية للكاتب الراحل أحمد خالد توفيق الذي وُلد في 10 يونيو/حزيران عام 1962 ورحل عن عالمنا في أبريل/نيسان 2018 تاركاً خلفه فراغاً كبيراً على الساحة الأدبية وفي قلوب مُحبيه وقُرائه على حدٍّ سواء.
ما زلت أذكر هذه الليلة التي رحل فيها، أذكر أنني كذبت الأمر في البداية وظننته كذبة إبريل/نيسان الشهيرة ولعنت مروجها، وبعدما تأكد الخبر أصبت بالصدمة، ليس لأن أي شخص منا كبير على الموت فكلنا راحلون، ولكن لأنني كنت أؤجل رؤيتي لأحمد خالد توفيق دوماً لأجلٍ غير مسمى. حينما تأكدت من رحيله بعد تأكيد أصدقاء مقربين انتظرت حتى العودة للبيت ومن ثم بكيت، لثلاث ساعات تقريباً. كنت أبكي ولا أحد يعرف حجم المصاب الذي شعرت به وقتها.
منذ ذلك اليوم انقسم الناس على مواقع التواصل الاجتماعي لنصفين، أحدهم لا يعرف من رحل بشكل تام، لم يقرأوا اسمه على غلاف كتاب أو رواية له أو على غلاف عمل ترجمه، ولم يصادفوا يوماً مقالاته المنشورة على المواقع الإلكترونية أو الجرائد والصحف العديدة التي كتب وعبر عن آرائه من خلالها، والنصف الآخر الذي كنت ضمنه وهم من عرفوه من خلال كتاباته أو تعاملوا معه بشكل شخصي ككاتب وكطبيب في مستشفى طنطا.
تخرج أحمد خالد توفيق في كلية الطب في جامعة طنطا عام 1985 وحصل على الدكتوراه في طب المناطق الحارة عام 1997 وعمل كعضو هيئة تدريس واستشاري قسم أمراض الباطنة المتوطنة في جامعة طب طنطا.
وفي خلال سنوات طويلة تقاطعت حياته مع العديدين الذين أحبوا كتابته والذين تتلمذوا على يده في الطب، لذلك كان الحزن عليه أكبر من المتوقع لكاتب يعيش في مدينة باعتبارها هامشاً أو طبيب كان يقدس مدينته ويُقدرها. إشكالية الهامش والمتن هذه جعلت العديد من الناس ينقسمون لفئات عديدة بعد رحيله في جنازة مهيبة حضرها كل محبيه من شتى المحافظات. جنازة دفعت البعض لنقد الرجل وسيرته وأدبه قبل أن يغطي التراب جسده!
في مصر لا يمكن تجاهل قيمة القاهرة بكل قسوتها ومركزيتها في كل جوانب الحياة، لا يمكنك النجاح وأنت في مكانك، يجب عليك أن تسكن في القاهرة وتكون من رواد علامتها المميزة حتى يحظى ما تقدمه بالرؤية الكافية، ولتتخلص من أزمة الأقاليم أو الهامش بشكل أرق في التعبير، وحتى تنال رضا النخبة المركزية.
كل هذه الأشياء معروفة ومعتادة، لذلك كان من المتوقع للبعض أن تنتهي مسيرة أحمد خالد توفيق مع موته بصورة هادئة جداً، حيث لن يتذكره أحد كالمئات والآلاف الذين يودعهم الناس يومياً، أو على أقصى تقدير كعشرات من الفنانين الذين يفضلون البقاء في مكان ولادتهم ليتركوا أثر فراشة غير مرئي، ولكنه قد بفعل ما يفعله بعد الرحيل.
الغريب في قصة الدكتور أحمد خالد توفيق أن هذا الفراغ الذي تسبب فيه رحيله جعل كل محبيه يحاولون تعويض غيابه من خلال قصصهم معه وحكايتهم الإنسانية الخاصة، بالإضافة لتأكيد كل شخص منهم على حقيقة ما قاله الرجل في حوارات مرئية قليلة جداً عن كونه رجلاً عادياً لا يحب التقديس ولا الألقاب التي يطلقها عليه قراؤه مثل لقب "العراب"، بالإضافة لحقيقة زهده التام في المجد الذي يمكن أن يحصل عليه من خلال كتابته عن طريق الانتشار بصورة أكبر إذا عاش في القاهرة أو حتى السعي لترويج أعماله الروائية لتنال حقها ليتم نقدها بشكل جاد، كما يمكن أن يحدث مع أي كاتب، وكأنهم يتعمدون تجاهله لكونه على هامش هامشي كرجل من مدينة هامشية لا يحب ولا يرغب في الأضواء.
نقد النقد.. خلافات بين الفترة والأخرى
حقيقة أخرى تحدث بسببها الخلافات بين حينٍ وآخر وهي القيمة الأدبية لما تركه هذا الرجل. نجد على فترات من ينهشون في سيرة هذا الرجل لشخصه، يسخرون من محبيه أو مما قدمه بشكل كلي باعتباره كاتب أطفال، رغم حقيقة أن الرجل كتب في أدب الناشئة، إلا أن تعريف كاتب أطفال ينتشر من أجل التقليل من فنه ومن محبيه في تجاهل عجيب لأعمال جادة عديدة كُتبت لتنضم لمصاف الأعمال الأدبية المهمة أو لمقالات صحفية عظيمة كان الرجل فيها في غاية الهدوء والرزانة وهو يتناقش عن العام بمنظور شخصي أو يطرح رأيه الشخصي للعام بلا انفعال أو افتعال.
البساطة الشديدة لرجل مثقف وواسع الاطلاع، محبوب وناجح وله جماهيرية لم يحصل عليها إلا بما كتبه فقط، بالإضافة لكونه طبيباً ناجحاً لم يترك وظيفته أو مدينته، مما منحه استقراراً -باختياره- قد لا يحصل عليه الكثيرون، كل هذه الأسباب تجعل محبي لعبة الفرز والتصنيف في حيرة من أمرهم حينما يريدون نقد الرجل لشخصه، هل يتم وضع هذا الرجل في تصنيف معنا/علينا، أبيض/أسود، مؤيد/معارض، أديب حقيقي أم كاتب أطفال.
كلها أشياء تثير غضب أولئك الذين يحبون تصنيف البشر حسب رؤيتهم هم فقط وليسوا كما هم. أنا عرفت أحمد خالد توفيق وعمري 16 سنة، بالصدفة قرأت مقالاً طويلاً على فيس بوك يحمل اسمه وكانت هذه أول مرة أصبر على قراءة شيء أكثر من 5 سطور! بعدها بدأت أنتبه لاسمه المكتوب في آخر المقالات التي كانت تعجبني، ومن ثم بحثت عنه فوجدت صفحة عليها مئات الآلاف من المعجبين وتحصد على المقال الواحد تعليقات وإعجابات عديدة، لم أكن أعرف من هو وماذا تعني كلمة مقال رأي، ومن بعدها بدأت أبحث أكثر لتنكشف لي طاقة من المتعة والمعرفة في آنٍ واحد، ثم بدأت في قراءة أعمال تحتوي على مقالاته المجمعة لأجد نفسي فجأة أعرف ماذا الذي يعنيه تصنيف مقال رأي.
ومن بعدها، وبفضل هذا الرجل بدأت أحب القراءة، وأحبه. ما زلت أذكر رحلتي مع روايته "في ممر الفئران" وكيف وجدت أن هذا الرجل الذي يكتب مقالات تتناول مواضيع يومية قد تبدو عادية، له خيال بارع ورؤية ثاقبة، بالإضافة لحساسيته الشديدة تجاه هذا العالم الذي نعيش فيه. أتذكر في لحظة الكتابة هذه صدمتي حينما قرأت روايته "يوتوبيا" والتي كنت أعرف أنها مدينة أفلاطون الفاضلة، وكيف دخل هذا الرجل بي من خلال مقال قرأته منذ عدة سنوات لمدينته المُتخيلة على أنقاض مدينتنا التي نعيش فيها، وكيف ترك نفسه يكتب في أدب الديستوبيا عن مخاوفه وما قد تصل إليه البلدان بعدما تتخطى مراحل الفقر.
أعمال وأعمال.. لماذا يهاجمون أحمد خالد توفيق؟!
بعدما مات أحمد خالد توفيق تحولت بعض أعماله المكتوبة لأعمال مرئية. حلم قديم لم يُكتب لصاحبه رؤيته يتحقق أمامه. صدر في 2020 عن منصة "نتفلكس" العالمية مسلسل "ما وراء الطبيعة" المأخوذ عن السلسة الأولى التي كتبها الراحل في بدايته. ربما كان هذا العمل هو أول ما يتم طرحه للجميع على العام، ومن ثم بات لهم نقده كما يريدون، ولكنهم أيضاً تناسوا أنهم ينقدون عملاً مرئياً مأخوذاً عن عمل أدبي مكتوب منذ 30 عام تقريباً، بالإضافة لوجود معالجة درامية خاصة بالطبع وبالتأكيد، مع غياب صاحب الرؤية والنص فإن ما تم إنتاجه قد لا يضاهي جودة المكتوب، ولكن كل هذه العوامل المعروفة لم تكن كافية لمن يريدون الانتقاص من قيمة ومحبة هذا الرجل في قلوب محبيه وقرائه.
ومثلما حدث مع ما وراء الطبيعة حدث مع "الغرفة 207" المسلسل الذي تم عرضه مؤخراً على منصة شاهد والمُقتبس من عمله "سر الغرفة 207". كل هذه الأعمال، المقتبسة والأصلية مسموح بنقدها بلا شك، وبلا سلطة من أحد، بل إن قُراء الكاتب الذين امتدت رحلتهم معه هم أول من يقولون رأيهم في الأعمال المقتبسة باعتبارهم أول من يعرفها وتتفاوت آراؤهم حسب جودة العمل من عدمه. كل هذا لا يلفت نظر الأغلبية التي تحب لوم أحمد خالد توفيق على محبة قرائه له أو وجود قطاع عريض منهم بين النخبة الثقافية المركزية ذات الثقل التي تتعمد تجاهل المنتج الفني للرجل ككل، والذي تنوع وشمل كل أشكال الأدب، من خلال الرواية والقصة القصيرة والمقال والترجمة، من أجل تخصيص النقد لمحبيه أو لأعمال قد تكون غير صالحة لكل وقت منذ سلسلة ما وراء الطبيعة مثلاً والتي على الرغم من أنها من أدب الناشئة إلا أنهم يريدون وضع معاييرهم النقدية والأدبية الشخصية باعتبارها أهم ما أنتجه!
وكما يحدث في الأعمال المرئية يحدث أيضاً في الروايات التي يتم اختزالها كلها في روايته الأشهر "يوتوبيا" التي دفعت الآخرين للإشارة لبعض مقاطعها باعتبارها رواية صدرت في 2008 تتناول وضعنا العام في 2023، وبالرغم من إشاراته النابهة في هذا العمل إلا أنهم يُشيرون لها باعتبارها بالغة في السطحية رغم أنها في معاييرهم قد يتم تمجيدها باعتبارها رواية تنبئية أو رواية تتجاوز حدود زمانها ومكانها وذات قيمة عظيمة لتربعها على عرش الأكثر مبيعاً طوال هذه السنوات!
ليس من الواجب تقديس الكاتب لأنه محبوب أو لأنه ناجح أو لأنه كتب، ولا يوجد نص أدبي أو أديب غير قابل للنقد، ولكنني أكتب شهادتي عن زمن الكيل بأكثر مكيال، حيث الشيء الذي قد يمنحه صاحبه المجد هو نفسه ما قد يتسبب في جعله فريسة للضباع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.