بعد أن تحدثنا عن محاولات الفصائل المسلحة العراقية تطويع أعلى مؤسستين في الجهاز الأمني والعسكري لخدمة مصالحها، وعن الاستراتيجيات التي تنتهجها تلك الفصائل لترميم دولتها العميقة أو بناء أخرى جديدة، ينبغي في المقام الأول، أن نوضح معنى "الدولة العميقة".
كذا يجب أن نقول إن معظم الفصائل المسلحة لا تريد ترميم دولة العراق العميقة أو السيطرة عليها فحسب، بل صارت تفضل أن تصنع لنفسها دولة عميقة على غرار الدولة العميقة التي سعى الزعيم السياسي مقتدى الصدر لبنائها في السنتين الماضيتين، ثم انهارت مع تقديم 73 نائباً استقالتهم من مجلس النواب العراقي. وكذلك "الدولة المالكية"، نسبة لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتي تهاوت بعض أجزائها في السنتين الأخيرتين.
رغم كل الخلافات التي تطفح بين الحين والآخر بين أطراف الإطار التنسيقي، في محاولة الحصول على حصة الأسد في حكومة السوداني، تريد هذه الأطراف أن ترسم صورة مغايرة للخلافات التي تدب في جسد الإطار التنسيقي، وفي صراع أعضائه البيني، من أجل ترميم دويلاتها العميقة في داخل المؤسسات الحكومية، والذي سيضمن لها راحة البال في تحصيل أكبر قدر ممكن من الريع الحكومي.
يجادل الكاتب البريطاني، جايمس كوربت، أن الدولة العميقة أو حكومة الظل أو الفرق السرية جميعها تشير إلى الظاهرة نفسها، وهي وجود مجموعة غير منتخبة، غير خاضعة للمساءلة، وغير معروفة إلى حد كبير وراء الحكومة المرئية -أي الحكومة الشرعية- وتسعى إلى تحقيق أهدافها الخاصة.
يؤكد كوربت في هذا التعريف على عدم رسمية وشرعية الدولة العميقة بالتأكيد على أنها غير منتخبة وغير خاضعة للمساءلة، ولكن في بعض الأحيان توجد قيادات تنفيذية وأعضاء في المجالس التشريعية، ومنها القادم بطريق الانتخابات، وهم في الأصل ينتمون إلى الجماعات المشكلة للدولة العميقة، ويسعون نحو مصالح ذاتية غير مصلحة الدولة، أي إنه لا يمكن أن نعمم حكم جيمس كوربت بأن تلك القوى غير منتخبة.
الدولة العميقة والدكتاتورية
مصطلح الدولة العميقة يعتبر مرادفاً للدكتاتورية، رغم أن المصطلح يحمل في جعبته الكثير من المضامين، التي تفهم على أنها في المحصلة شرعنة للتفرد في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والعسكري، وغيرها من القرارات. كما أن لب هذا المصطلح هو في المقام الأول صناعة شبكة من المناصب المدنية والعسكرية، لا تخضع في العمل ضمن سياقات المؤسسات التي يعملون بها، وإنما يأتمرون بأمر المنصب الأعلى في هذه الشبكة، والتي يسعى أطرافها فقط وراء مصالحها وتأمين أركان سلطانها، كما أنها تؤمن بالديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة، والذي لا تعيره في نفس الوقت أي اعتبار، لأنها سبق أن حصنت نفسها تجاه أي تغير يطرأ على الشكل الخارجي للمؤسسة البيروقراطية، والتي إن لم تخضع لها ولما تراهُ وتعتقد أنه الأنسب والأفضل، عملت على زعزعة عمل رأس السلطة للنظام البيروقراطي.
فجميع القوى السياسية، وبالأخص الشيعية منها، أصبحت تتصارع وبشكل دموي فيما بينها لكي تمنح نفسها أكبر قدر ممكن من النفوذ وعلى جميع الأصعدة، وتحديداً منصب رئيس الوزراء، فما كان من هذه القوى إلا أن ترشح شخصاً كان في وقتها لم يكن معروفاً على نطاق واسع، بل حتى على مستوى حزب الدعوة نفسه، وسوف يغدو فيما بعد الرجل الأقوى، وذراع إيران في العراق، بل حتى الولايات المتحدة الأمريكية، عندما قاد صولة الفرسان في محافظة البصرة ضد الميليشيات والنزول على بقية محافظات الجنوب والفرات الأوسط، أو عند رفضه أن يعطي أية ضمانات قانونية بشأن بقاء القوات الأمريكية في العراق، والاتفاق على تقليص تعدادها، لكي يقتصر فقط على التدريب والمشورة للجيش العراقي.
المالكيون الجدد
يتحدث الباحث البريطاني الأقدم بشأن العراق البروفيسور توبي دوج، في كتابه "العراق من الحرب إلى السلطوية الجديدة" أن المالكي، ولكي يحرر نفسه من قيود المنصب التوافقي، قام بالخطوة الأولى في سعيه لإحكام قبضته على السلطة، والتي تمثلت بالسيطرة على المؤسسة السياسية التي قدم منها وهي حزب الدعوة الإسلامية، فنجح في أبريل/نيسان 2007 في تهميش قائده الجعفري، فجرى انتخابه أميناً عاماً في حزب الدعوة، ثم أنشأ مجموعة صغيرة مترابطة من الموظفين، أطلق عليهم وصف "المالكيين"، وهم مرتبطون به شخصياً، وبشكل مباشر، وقد استخدمها كأداة ووسيلة لتعزيز قبضته على سلطة الدولة.
توزع المالكيون ضمن مجموعتين منفصلتين، تتألف الأولى من أفراد الأسرة المقربين، وابنه، وأبناء أخيه، وصهره، الذين يشغلون مناصب حساسة في مكتب رئيس الوزراء. أما البقية فقد كانوا ضمن المجموعة الثانية، وتتألف من موظفي حزب الدعوة الذين تحالفوا مع المالكي، عندما سيطر على الحزب، وأحكم قبضته على السلطة.
عندما واجه المالكي نخبة سياسية ممزقة مستغرقة في الاقتتال الداخلي، والإثراء الذاتي، قام بوضع "المالكيين" في شبكة من النفوذ والمحسوبية تجاوزت مجلس الوزراء، وربطت رئيس الوزراء مباشرة بهؤلاء المدراء وكبار الموظفين المدنيين الذين كانوا يمارسون سلطة الدولة بعناوين دون المستوى الوزاري، وكيل أو وزير مثلاً.
ونتيجة لذلك ومنذ عام 2006 وما بعده شكل المالكي دولة ظل تناور وتتحايل على النخبة الحاكمة الموجودة في السلطة، فقد وضعت دولة الظل هذه مكتب رئيس الوزراء في مركز سلطة الدولة، وقللت من قدرة مجلس الوزراء على التأثير في السياسات وتطبيقها، وعندما انتشر نفوذ وتأثير المالكي على أفراد أسرته وعلى الأفراد الذين تحالفوا معه من داخل حزب الدعوة، فقد عين ابنه أحمد المالكي كمدير للمكتب، مانحاً إياه دور الإشراف على كافة القوات الأمنية العراقية، وجعله المسؤول شخصياً عن أمن والده.
وهنا بزغت ملامح الدولة العميقة التي لم تفهمها القوى السياسية باختلافها، ولكنها في نفس الوقت استشعرت مخاطرها على مصالحها، ناهيك عن لذة امتلاكها، ومن خلال هذه الشبكة استطاع المالكي أن يتحايل ويتكيف مع الظروف السياسية التي مر بها.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.