لم يترك الملك البرازيلي، بيليه، بصمته على تاريخ الرياضة العالمية فحسب، بل كان أيضاً وجهاً سياسياً مثيراً للجدل في بلاده، فاتُّهم بدعم النظام العسكري الديكتاتوري الذي حكم البرازيل في فترة تألقه الكروي، كما واجه حرباً شرسة من "اللوبي" المالي، خلال عهدته الوزارية في العشرية الأخيرة من القرن الماضي.
ففي اليوم الأول من شهر أبريل/نيسان 1964، حدث انقلاب عسكري بالبرازيل، أطاح بالرئيس المُنتخب ديمقراطياً، جواو غولار، فساد الحكم الديكتاتوري في البلاد لمدة 21 سنة، أي إلى 1985.
وطوال كل تلك المدة، لم يقم الملك بيليه، بأي تنديد أو احتجاج علني ضد السياسة القمعية للنظام العسكري الحاكم، الذي كان مدعوماً من طرف الولايات المتحدة الأمريكية، ما جعل الكثير من المراقبين يوجهون سهام النقد لنجم الكرة العالمية، ويتهمونه بدعم الحكومة الديكتاتورية.
صورة بيليه في لافتات دعائية للنظام الديكتاتوري
ولعل أبرز دليل استعمله منتقدو بيليه لاتهامه بموالاة النظام العسكري الديكتاتوري بالبرازيل، هو استغلال الجنرال إميليو غاراستازو ميديسي اسم وصورة محبوب الجماهير الرياضية لتحسين سمعته الشخصية وسمعة الطغمة الحاكمة.
فقد وصل الجنرال ميديسي لرئاسة البرازيل سنة 1969، أي قبل عامٍ واحدٍ فقط من نهائيات كأس العالم لكرة القدم، التي جرت في صيف 1970 بالمكسيك.
وكان بيليه، في تلك الفترة، متردداً في المشاركة في البطولة العالمية، بسبب خشيته من تكرار تجربة مونديال إنجلترا 1966، لما تعرض لتدخلات عنيفة ومتعمَّدة من طرف بعض مدافعي المنتخبات المتنافسة، ما تسبب له في إصابة خطيرة، أخرجته مبكراً من المسابقة.
ولكن النظام الديكتاتوري بقيادة الجنرال ميديسي أقنع بيليه بالمشاركة في مونديال المكسيك، وقام باستعمال صورة أسطورة الكرة العالمية، في لافتات للدعاية لسياسته الديكتاتورية، تضمنت عبارات استفزازية تجاه معارضيه، على غرار "البرازيل تحبها أو تغادرها "، و "لا أحد يستطيع أن يسيطر على هذا البلد".
ولم يتحرك بيليه، ولم يُبد أي احتجاج على استغلال صورته لأغراض سياسية من طرف الجنرال ميديسي، الذي زاد من قمع المعارضين وتعذيبهم بالسجن فور تسلمه رئاسة البلاد، وقد سُميت فترة حكمه، التي استمرت إلى 1974 بـ"سنوات الرصاص".
وبعد نهاية مونديال مكسيكو 1970، وتتويج منتخب البرازيل باللقب، قام بيليه رفقة زملائه فور عودتهم إلى البلاد بالتوجه إلى العاصمة السياسية للبلاد "برازيليا"، أين استقبلهم الرئيس ميديسي، وظهر النجم الرياضي، من خلال الصور الملتقطة، مُتودداً كثيراً مع الجنرال، وبوجه مُنشرح بابتسامة عريضة، ما زاد من درجة سخط المنتقدين.
وقد رد بيليه على تلك الاتهامات وهو في خريف العمر، في الفيلم الوثائقي "بيليه"، الذي أنتجه الأمريكي كيفن ماكدونالد، وعُرض على منصة "نتفليكس" في فبراير/شباط 2021.
فقال بطريقة دبلوماسية: "لا أعتقد أنه كان بإمكاني فعل أي شيء مختلف. لم أكن سوبرمان. لم أكن أصنع المعجزات، لقد كنت شخصاً عادياً، سمح الله له بلعب كرة القدم. لكنني على ثقة تامة من أنني قدمت للبرازيل من خلال كرة القدم أكثر مما قدمه سياسيون كانوا ينالون أجوراً للقيام بذلك".
استمر المشوار الرياضي لبيليه إلى سنة 1977، حيث اعتزل اللعب نهائياً بعد نشاطه لموسمين اثنين ضمن نادي كوسموس نيو يورك الأمريكي.
سفيراً للأمم المتحدة ثم وزيراً للرياضة
ومباشرة بعد اعتزاله اللعب عينته هيئة الأمم المتحدة "مواطناً عالمياً" ثم سفيراً لليونيسيف واليونسكو، حيث كثّف من مهماته الإنسانية لحماية الطفولة ومكافحة تناول المخدرات.
وبعد أن ظل يرفض عروض مختلف الحكومات اليمينية للبرازيل لشغل منصب وزاري ضمن طواقمها، فإنّه أصبح في الفاتح من يناير/كانون الثاني 1995 وزيراً للرياضة لمدة 4 سنوات، تحت رئاسة فرناندو أنريك كاردوسو، بحيث لم يقدم موافقته إلّا بعد أن تم فصل قطاع الرياضة عن وزارة التربية.
فأصبح، بذلك، بيليه، أول رجل ذي بشرة سوداء، يُكلف بمنصب وزاري في البرازيل، كما حقق حينها إجماع مختلف الأطياف السياسية للبلاد.
وقد شهدت فترة تولي بيليه وزارة الرياضة في بلاده بصراعه الكبير مع رؤساء أندية كرة القدم، ومع رئيس اتحاد الكرة البرازيلي ريكاردو تيكسيرا، وذلك لمطالبته بكشف الأندية لحساباتها المالية السنوية، وسعيه لتأسيس رابطة مستقلة لتسيير الدوري البرازيلي.
"قانون بيليه" لتحرير اللاعبين من قيود الأندية
وقد نجح سنة 1998 في سن قانون لا يزال قائماً إلى الآن، يُسمى "قانون بيليه" يُجبر الأندية الرياضية على إبرام عقود اللاعبين وفقاً للقانون العام للعمل بالبرازيل، ما جعل اللاعبين يتحررون من قيود الأندية التي كانت تحدّ من حريتهم، بحيث لم يكن مسموحاً للاعب بالرحيل إلى نادٍ آخر إلّا بعد موافقة النادي الذي كان ينشط فيه، حتى في حالة انتهاء عقده.
وتحدث بيليه عن ذلك الصراع مع الأندية البرازيلية، في سيرته الذاتية التي صدرت عام 2006، حيث كتب: "أردت في البداية، أن يتم تسيير الأندية على شكل شركات، وبكل شفافية واحترام للأخلاق. بعد ذلك، أردت أن أجعل اللاعبين البرازيليين أحراراً في تسيير مسارهم الاحترافي، بحيث، على سبيل المثال، في نهاية العقد، لن يتمكن ناديهم من الاحتفاظ بأي حق تجاههم".
وتابع: "بمجرد أن أشرت إلى ضرورة نشر الأندية ميزانيات سنوية مدققة، تحالف جميع الرؤساء ضدي.. فلقد كان الافتقار إلى الشفافية مفيداً جداً بالنسبة لهم لإخفاء ملايين الدولارات من عملية بيع اللاعبين في الحسابات المصرفية الخارجية. أصبح لوبي كرة القدم خصمي الرئيسي، لقد كان للقادة الكبار الكثير من المال والكثير من التأثير في العالم السياسي".
لم يعد بيليه لممارسة السياسية بمجرد نهاية عهدته الوزارية في قطاع الرياضة لبلده عام 1999، ولكنه بقي متابعاً لها عن بُعد، وكثيراً ما كان يعبر عن آرائه فيما يخص الأحداث العالمية على غرار الحرب الروسية الأوكرانية الحالية
فقد دعا لإنهاء هذه الحرب قائلاً: "عشت 8 عقود، شاهدت خلالها الحروب وخطابات الكراهية من قبل القادة باسم أمن شعوبهم. لا يمكننا العودة إلى ذلك الوقت، علينا أن نتطور"… لكن الملك بيليه فارق الحياة دون أن يشهد تحقيق أمنيته بنهاية تلك الحرب.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.