قد يفهم البعض من العنوان أننى هنا أستعرض مؤلفات ظهرت هذا العام، لكن هذا الأمر قد لا يتأتى إلا للقليلين، ولكنني هنا أعرض كتباً قرأتها عام 2022، بعضها صدرت قبله، وقد حرصت على أن أختار مما قرأته من الكتب العربية التي لا تتآكل أهميتها بالتقادم، نشرت حوالي خمسين مقالاً عرضت في كل منها كتاباً قرأته، عدد كلمات كل مقال يصل إلى 1400 كلمة، ولكن ثلاثاً من هذه الكتب لم أكتب عنها بعد.
1- كتاب "سنام الإسلام: نظرات ومراجعات في التجارب القتالية"
مؤلفه هو الدكتور عبدالوهاب الطريري، وهو عالم معروف، صدرت مذكراته حديثاً تحت اسم "سماء الذاكرة"، من يقرأ المذكرات سيدرك أن الرجل من أكثر علماء الشريعة الإسلامية معرفة بمقاصد الشريعة، واطلاعاً على الثقافات الحديثة أيضاً، ولمن تهمهم التصنيفات، فإنه عند أهل بلده من علماء الصحوة، آراؤه في هذا الكتاب المهم ليست جديدة، ولكنها لم تكن مسطرة في كتاب، فكرة الكتاب تقوم على تساؤل: هل الجهاد، وهو ذروة سنام الإسلام، هو القتال للقتال للاستشهاد بغض النظر عن النتيجة التي نبتغي تحقيقها؟
يستعرض الكاتب ما ورد من آراء ليقول إن الحديث الشريف واضح: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، إذن من قاتل وفي تقديراته أن نتيجة قتاله لن توصل إلى أن تكون كلمة الله هي العليا، فيجب أن يراجع نفسه، ويعيد تقييم موقفه، فإذا قيل إنه سيستشهد، وهذا حلم كثير من الصحابة، فذلك إن تحقق فسيكون ثوابه هو، ولكن قد يكون وبالاً على الأمة. في غزوة بدر كان رسول الله يناجي ربه، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تُعبد في الأرض، لم يكن يدعو لهم بالاستشهاد، فإن استبقاءهم يحفظ الدين أكثر من استشهادهم في ذلك اللقاء، وإذا كان ما أسمى بغزوة منهاتن قد أظهر وجود أناس على هذا القدر من البطولة والتحدي التي تعجز أي ثقافة غير الإسلام عن أن تنتج مثلهم، لكن نهاية فعلهم كانت تدمير دول وشعوب إسلامية لو بقيت وبقوا هم وأُحسن توجيههم لكانوا خيراً للإسلام، إذن لم يتحقق بفعلهم أن تكون كلمة الله هى العليا، بل زادت تنازلات بلادهم للغرب من أجل السلامة، ولو كانت الشهادة هدفاً في نفسها لما حرم الله منها رسوله ولا الصديق، والخلفاء الثلاثة الذين استُشهدوا لم يكونوا في ساحة القتال.
أفكار الكتاب ليست أفكاراً فلسفية تعتمد المنطق، ولكنها أفكار تقوم على حسن الاستدلال بالكتاب والسنة وفعل الصحابة والتابعين، وقراءة خريطة القوة في العالم، ووسائل الصراع والدفع (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض…).
ما يعزز من قوة الأفكار في الكتاب أنها ليست وليدة فقه أنتجته محنة تعرّض لها المسلمون، ولكنها قراءة أصيلة تبحر في سنن الكون والحياة.
2- كتاب المفكر منير شفيق المعنون "من جمر إلى جمر، صفحات من مذكرات منير شفيق".
لقد دونه وحرر هذه الصفحات نافذ أبو حسنة رحمه الله، وستبقى من أهم ما كُتب عن تاريخ الثورة الفلسطينية، فمنير شفيق مفكر من طراز نادر، وأهم ما في فكره أنه ليس وليد الأبراج العاجية، بل وليد البحث عن اليقين وفقه الميادين، مقدسى عاش مع الثوات الفلسطينية، جاء من بيت مسيحي أقرب إلى الثراء، قادته ثقافته إلى الشيوعية، عاش في مطلع حياته في السجون الأردنية، لم ينكسر أو يلين، خرج ليرتحل مع الثورة الفلسطينية في لبنان، وليكون من أقطاب مركز التخطيط الفلسطيني، الذي عمل ليكون بوصلة العمل لفلسطين، ورغم أنه لم يتمكن من أن يقود السياسيين، فإنه تمخض عن تجربة نضالية فريدة، فرادتها أنها عبّرت عن أصالة الثورة الفلسطينية التي حملها مثقفون، معظمهم رفيعو التأهيل العلمي، عملوا بإخلاص ملتزمين بالنموذج الذي يفيض سمواً، والذي يترفع عن أن يكون أداة لأي نظام سياسي عربي أو فلسطيني ينحرف عن طريق التحرير، لا تفتنه البندقية فيتخلى عن الجماهير، ولا يعرض محيطه الحيوي لمخاطر لا يحتملها، يقدم صورة نضالية بهية بما فيها من تضحية بسالة وصدق، تلك التجربة التي عرفت باسم الكتيبة الطلابية، أو كتيبة الحرمق، الكتيبة التى وجدت بعد سياحة واسعة في كافة المبادئ أن الإسلام في أكثر تجلياته وضوحا هو الأقدر على السير بالقضية وبالجماهير إلى بر الأمان دونما اصطناع لعداوة مع أحد أو تنكر لمسيرة الفكر البشري أو معاداة القومية أو الشيوعية، انتهى المثقف المسيحي إلى الإسلام، ليصبح مفكراً إسلامياً من الطراز الأول، لا يفرط في المبادئ، ولكنه يتعامل بواقعية مع التحديات.
يحسب للراحل نافذ أبو حسنة إكساب هذه المذكرات جمال السرد الأدبي، تلك التي أكسبت الأفكار رداءها الجذاب، أرشح هذه المذكرات لكل مهتم بفلسطين، وبطبيعة الحال أرشح معها ذكريات معين الطاهر وشفيق الغبرا، وغيرهم ممن تخرجوا من مدرسة الكتيبة الطلابية.
3- رواية القطائع للكاتبة ريم بسيوني
النشر الأدبي في العالم العربي ما زال يتحول نحو الرواية، رواية "القطائع" للكاتبة ريم بسيوني، تبدو كأنها الجزء الثانى من مشروع ثقافي، أوله كان عن المماليك في ثلاثية أولاد ناس، وثانيه هذه الرواية القطائع التي تتحدث عن أحمد بن طولون، الرواية التي ظهرت مؤخراً باسم الحلواني والتي تستوحي التاريخ الفاطمي، الكاتبة تعيد كتابة تاريخ الدول الإسلامية التي تمركزت في مصر روائياً، رواياتها تستوحي التاريخ وإن لم تكن رواية تاريخية بالمعنى الكلاسيكي، حجم رواياتها ضخم، ولكن لغتها معبرة، بطلات ريم في كل رواياتها نادراً ما يلجأن إلى غير سلاح الأنوثة لكسب صراعاتهن، هنا تستعين البطلة بكنز أحمد بن طولون أبيها، إضافة بالطبع إلى أنوثتها، رغم أن الترهل زحف قليلاً خلال روايتي البسيوني اللتين أشرت إليهما، فإن الكاتبة استطاعت أن تخلق جواً ثقافياً، يتضمن رحلات ثقافية سياحية في أبنية المعمار الإسلامي في القاهرة، يحيط بها في رحلاتها مثقفون وفنانون ومعماريون، وأظن أنها قد استطاعت أن تؤسس لمشهد ثقافي لافت، يغتني أيضاً بقراءاتها في الأدب الصوفي، وهذا يضيف إلى شخصية المسلم الحضارية في مصر، وهذه يجب ألا تذوب في بحر العولمة الثقافية.
لا بد أن تقرأ الرواية مرتين لتسلم لك أسرارها وخفاياها وهي تستحق بلا شك.
4- كتاب "مواجهات السلطة: قلق الهيمنة عبر الثقافات" للدكتور سعد البازعي
مؤلف هذا الكتاب، الدكتور سعد البازعي، كان زميله في العمل الجامعى عبد الوهاب المسيري، متخصص في اللغة الإنجليزية، وأظن أن هذا أتاح لكليهما أفقاً ثقافياً واسعاً يندر أن تجده عند غيرهما، أما هذا الكتاب، وقد صدر قبل أعوام قليلة، فإنه سيظل في ظني أحد الكتب الواجبة القراءة لكل مثقف عربي.
من المعروف أن الثقافة أوسع أفقاً وأعمق رؤية وأكثر حيوية من السلطة السياسية، بل إن كلمة السلطة تعطي إيحاءً بالاستقرار الذي يتحفظ على التغيير، ولذا فإن المواجهة بشكل من الأشكال قد تحدث، وهنا فإن الأمر لا يقتصر على السلطة السياسية، بل يتعداها إلى مواجهة السلطة الاجتماعية والسلطة الدينية. السلطة السياسية تملك من أدوات الهيمنة ما يسخر لها القوى الأخرى، وعندما حصلت مواجهة صريحة مع الثقافة استطاعت في بعض الأحيان أن تسجن وتعتقل وربما تقتل، وفي أقل الأحيان أصبح المثقف ذا الرؤية المغايرة مهرطقاً أو زنديقاً وربما حلولياً، وقد أدرك كثير من المثقفين الطليعيين أن تجنب المواجهة أسلم لهم وأكثر أمناً على فكرهم، ولذا فقد تحايلوا عليها، بعضهم (الفارابى) أسند إلى فلاسفة يونانيين ما كتبه، وبعضهم لجأ إلى الرمز كابن المقفع، استخدم هذه التقنيات مفكرون كانوا أحياناً وجزءاً من السلطة، وصلت رسالتهم على الأغلب في حينها أو بعد حينها بقليل.
هذا الأسلوب من المواجهة ليس جديداً، ولا يخص مثقفي ما يسمى بعصر التنوير الأوروبي أو لا عصر الحداثة في العالم العربي، ولكنه صحبنا عبر العصور. بعض الأذكياء يقولون إن هذا التحايل قد أثرى الفن والأدب، مثلاً عندما لم يحتج نجيب محفوظ إلى الحيلة كتب الكرنك، ولكن رواية الكرنك كانت أقل فنية من روايتيه ميرامار وثرثرة فوق النيل، كلتاهما نشرت في العصر الناصري، وكلتاهما فتحت العيون على كل المثالب وأنذرتا بالكارثة، أهمية هذا الكتاب لا تقف عند إظهار الفكرة، ولكنها تعطي القارئ فهماً أعمق للنصوص التي نقرأها اليوم بعد أن تغير سياقها الزمني والفكري، أن ما يعرضه الكتاب عن الأجواء السلطوية أيام أبي حيان التوحيدي يجعل قراءتنا لكتاب الإمتاع والمؤانسة أكثر ثراء وفائدة.
أتمنى للقارئ وللكتّاب عاماً ثرياً بالخير والسعادة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.