على تطبيق Good reads – جود ريدز، الذي لا يتوقف عن إرسال الإشعارات حول ما شاركه الأصدقاء عن قراءاتهم خلال العام، أتصفح قائمتي الخاصة في نهاية كل عام.
بالكاد قد أتفق أنا وأصدقائي على عمل أو اثنين من حيث الجودة والتفضيل، وهذا التنوع من الأساس هو ما يسمح لنا أن نطلع على أكبر قدر من الكتب خلال العام الواحد؛ حيث إن هذه المشاركة وهذه الأحاديث هي ما تُجدد محتوى جلستنا الأسبوعية أو الشهرية أو الأحاديث التي تجمعنا على مواقع التواصل الاجتماعي. في هذا العام الذي بدأ بمعرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير/كانون الثاني ٢٠٢٢ كنت محظوظاً بقراءة أعمال جيدة صدرت على مدار العام، وهنا فرصة عظيمة للحديث عنها.
حُب ورائحة حلوة للموت: أدب خلّاب من الأراضي المجهولة
المُتابع لترجمات الكاتب والمترجم المصري "محمد الفولي" يعرف أنه رجل انتقائي، شديد الدقة والحرص على اختيار أعمال مميزة ومُغايرة، بالإضافة لهدفه الدائم بتعريف القارئ العربي على أحدث الأعمال الصادرة باللغة الإسبانية واختيار أهمها لترجمته في صورة بهية. في رواية "حُب" للكاتبة الإسبانية "سارة ميسا" والصادرة في نسختها المُترجمة عن دار "أثر" بالسعودية نجد هنا تجربة فنية في غاية الكمال تنفصل فيها الكاتبة عن بطلة العمل بحرفية وتُسيّر النص حسب أحداثه المُقدرة بناءً على أفعال أبطال الرواية.
في ١٦٨ صفحة نتعرف على "نات" بطلة الحكاية التي تعمل في مجال الترجمة والتي تسعى لترجمة عملها الأول في قرية بعيدة عن ضوضاء وصخب العاصمة، ولكن هذه القرية تضعها في متن أحداثها ومن ثم نجد أنفسنا أمام متن مُهمّش وهو مُعضلة ترجمة العمل الأول، وبين هامش يتصدر الكادر وهو حكاية "نات" نفسها في القرية. من خلال هذا النص الذي يُعرفنا عن "سارة ميسا" التي تتحدث بالعربية للمرة الأولى من خلال هذه الترجمة على يد الفولي يمكن التأكيد على أن هذه الكاتبة ستتصدر ربما المشهد الأدبي في إسبانيا ككل عن جدارة واستحقاق. وفي المقابل نجد رواية "رائحة حلوة للموت" للكاتب المكسيكي "غيريمو أرّياغا" التي صدرت عن نفس الدار ومن ترجمة نفس المترجم.
نجد رواية لكاتب كبير ربما لم يصلنا اسمه من قبل، ولكن "محمد الفولي" الذي يفتش عن الذهب بين الحكايات المجهولة اختار لنا واحدة من الروايات الشهيرة له. تدور أحداث الرواية حول جريمة قتل. يعثر أهالي القرية على جثة فتاة تُدعى غابريلا، وبالرغم من أن الحكايات التي تدور في هذا الإطار ربما تبدو مُستهلكة إلا أن أرياغا يحلق بنا بعيداً ليصنع من الجريمة إطاراً درامياً شفافاً لوضعنا في داخل القرية.
ومن الجريمة نتعرف أكثر على مجتمع تتفشى فيه الكذبة وتتناقل مع الحذف والزيادة لتصل لآخر شخص يسمعها باعتبارها حقيقة لا تقبل التكذيب. تؤدي جريمة القتل المجهولة إلى جريمة أخرى ولكن هذه المرة فاعلها معروف تماماً. يرمي أرياغا الخيوط والأحداث الدرامية ببُخل وحرص ليُشرك قارئه في الحكاية ويجعله عاجزاً عن حل الاشتباك حتى بعدما يُنهي روايته تماماً.
قصص بين الحقيقة والخرافة والحياة الواقعية.
بالرغم من تراجع القصة القصيرة عن تصدر المشهد الأدبي مؤخراً لعوامل عديدة، إلا أنني قرأت أكثر من عمل قصصي كانت في غاية الروعة، ربما تبدو الإشارة هنا لأعمال قليلة أو قصيرة الصفحات إلا أنها رغم ذلك شديدة الثراء والقيمة.
في مجموعتها القصصية الأولى برعت "نورا ناجي" في توظيف خبراتها الروائية لصنع قصص قصيرة تحمل في طياتها الدهشة والتكثيف اللازم من خلال قصص ثرية من الحياة اليومية تُضفر نورا خبراتها ككاتبة لكشف الفوارق العديدة بين المدينة والعاصمة، البدايات والنهايات، والدهشة في مقابل الرتابة والروتين اليومي. في مواجهات غير مباشرة تضع نورا ناجي كل المتضادات في قصة واحدة وتبني قصصها على مشهد مُرتجل في منتصف العمر.
تضع الشخصي الخاص بها كالأماكن التي تمر عليها في رحلتها من طنطا إلى القاهرة في متن حكايات أبطالها المُتخيلين، لتجعل قارئها دائماً يعقد المقارنات بينهم وبين شخصيات حية في حياته الشخصية، لتُثبت في كل مرة أنه لا يوجد وجه واحد لنفس الحكاية. وبما أنني أكتب عن أعمال جيدة قرأتها في هذا العام فيجب أن أذكر "نابليون والقرد" للكاتب "محمد عبد الله سامي" التي وقعت في سحرها وغرائبيتها. المجموعة القصصية هي تجربة محمد الأولى في القصة القصيرة؛ لذلك كانت التجربة منطلقة من مبدأ التجريب ككل. تدور القصص في أزمنة وأماكن متعددة، بعضها حقيقي كقرية أنشاص التي قد لا يعرفها الكثير من المصريين، وبعضها مجهول أو في أزمنة بعيدة مثل القصة الرئيسية "نابليون والقرد" التي تحكي حكاية مُتخيلة عن مقاومة المصريين للاحتلال الفرنسي الذي جاء على رأسه نابليون بونابرت.
أكثر شيء لافت في هذا العمل هو التعارك الحقيقي بين الكاتب وبين الخرافة، والمزج بين الواقعية والغرائبية. بالإضافة لوجود لغة وسيطة سلسة تنقل فكرة القصص ببساطة لقارئها من خلال أبطالها المتعددين. في الغلاف الكاريكاتوري المراوغ الذي لا يفصح تقريباً عن أي شيء بخلاف قصة "باب الجنة" نجد أنه ليس كل جواب قد يظهر من عنوانه، ولا كل محتوى قد يظهر على حقيقته فقط من خلال الغلاف، فإننا هنا نجد قصصاً فريدة الطراز وغريبة التكوين وشديدة التفرد.
وفي نفس سياق المجموعات القصصية الفاتنة، أكتب عن "للمحبين والأوغاد وقُطاع الطرق" للكاتب والصحفي "محمد البُرمي". يبدو التأريخ عن الشخصي هنا في هذا العمل هو الأهم، ولكن من قال إننا نكتب الأدب باعتباره حقيقة؟ لا انحياز في الأدب؛ لذا فإن السياقات المتعددة في مجموعة البُرمي ربما تكون مسارات شخصية، وربما تكون لا، ربما هي شخصيات أبطال مجموعته الفاتنة الذين يمكنهم تلخيص حياتهم كلها في ثلاث جمل!
في تكثيف مُتعمد لقصص كثيرة تحمل كلها طوابع عاطفية مشتركة كالخوف والحب والغضب والوحدة. كتابة البُرمي في القصة مثال حي على تعدد موهبته وقدرته على التلون والتنقل في الزمن بسهولة ليحكي عن منتصف العمر وسذاجة الشباب، عن أول حب وعن الهلاك الناتج عن انكسارات عاطفية متعددة، وعن الأمل الكذاب واليأس القاتل.
اسمي زيزفون وقلق الأمسيات: الحكاية من زاوية تأريخية
في جولة لي في معرض القاهرة الماضي ذهبت لجناح دار "منشورات الربيع" واخترت خمسة أعمال ما بين الرواية والقصة والأنطولوجيا. وفي إحدى زياراتي لمدينة الإسكندرية اخترت رواية "اسمي زيزفون" للكاتبة السورية "سوسن جميل حسن" وطوال ٤ ساعات سفر انتقلت بالزمن وصرت أسير سوريا وأسير حكايات الراوية "جهيدة".
تحكي سوسن جميل عن سوريا التي تعرفها كمواطنة عاشت فيها لسنوات عديدة، تحكي الذكريات وتروي الحاضر الذي عاصرته في الحرب التي خربت كل البلاد ومزّقته بفعل قوة الفتن وبطش السلاح. الرواية كانت صادمة للحد الذي جعلني عاجزاً تماماً عن التفاعل مع أي شيء خلال قراءتها. كنت هناك حيث مشاهد القصف والحرب مشتعلة، وزيزفون الرواية تحكي حكايتها من السنوات الأولى وحتى بعد تجاوزها الستين. الكتابة عن وطن ممزق عمل صعب، وليس أصعب ما فيها تداخل الحقيقي مع الضروري لإطار الرواية، ولكن أصعب ما فيها هو الحديث عن تسرب سنوات العمر أمام عيون كاتبها شهراً تلو الآخر وعاماً تلو الآخر. في رواية اسمي زيزفون كانت "سوسن جميل حسن" في اختبار صعب لنقل صورة حسنة عن موهبة أبناء بلدها، وفي اختبار أصعب لجعل كل من يقرأ عملها يشعر بالمأساة السورية التي لا تتوقف عند استشهاد وموت الآلاف وهجرات الملايين، بل إنها تشمل الحياة اليومية لأولئك الذين ينامون ويستيقظون على صوت النار وصراخ أهل الموتى.
في إطار التأريخ وخلط الشخصي بالدرامي قرأت واحدة من أهم روايات هذا العام من إصدار دار "العربي" المصرية التي تُنتج سنوياً في عالم الترجمة العديد من الأعمال الهامة من أغلب بلدان العالم، ومن لغات عديدة ولأسماء أجنبية لامعة قد لا نلتفت إليها لعوامل تسويقية أو مع الانتشار الكبير لأسماء بعينها. أتحدث عن قراءتي لرواية "قلق الأمسيات" للكاتبة الهولندية "ماريكا لوكاس رينفيلد" أصغر فائزة بجائزة البوكر العالمية. الرواية عن أسرة بسيطة في الريف الهولندي تنقلب حياتها فجأة حينما يموت "ماتياس" أخو الراوية الصغيرة التي تحكي الحكاية لشرح شعورها العميق بالذنب لوفاة أخيها بعدما طلبت من الله أن يأخذ روح أخيها بدلاً من روح أرنبها الذي تريد الأسرة تحضيره على العشاء في ليلة عيد الميلاد!
هنا حكاية شخصية أيضاً. ماريكا لوكاس رينفيلد ما زالت تعمل في مزرعة في الريف الهولندي تماماً كما نشأت وترعرت وصارت كاتبة شهيرة، بالإضافة لأن الدافع الشخصي لكتابة هذه الرواية هو رثاء أخيها الكبير الذي مات حينما كانت في الثالثة من عمرها. تكبر بطلة الرواية في العمر وتنمو معها هواجسها عن الجسد والأرواح الشريرة ومخاوفها من الله ومن علامات تقدم العمر على والديها. وبلا خوف تقتحم ماريكا المناطق الشائكة داخل كل نفس، وتحكي عن محاولات بطلتها العديدة للتخلص من عقدة الذنب.
موت منظم: الجغرافيا هي القدر
يقول الأديب المصري "محمد المنسي قنديل" إن الأدب الجيد هو جغرافيا جيدة، قد تكون هذه الجملة هي أحد الفاعلين الأساسيين لهذا النص؛ لأن الكتابة عن أرمينيا وأحداث نيسان /أبريل دفعت الكاتب المصري "أحمد مجدي همام" لكتابة رواية "موت منظم" الصادرة عن دار "هاشيت أنطوان" اللبنانية، والذهاب إلى أرمينيا لمعرفة المزيد عن جغرافيا المكان الذي يكتب عنه، ولكن الفاعل الأساسي هو الصوت الداخلي لأحمد الذي دفعته صورة فتيات أرمينيات عاريات على الصليب للبحث في الموضوع، والذهاب لأرض الحدث والكتابة عنه بأكثر من صورة فنية تضمنها العمل الروائي الذي شمل في صفحاته فنيات القصة القصيرة وتقريرية المادة الصحفية بالإضافة لأصواته الروائية المميزة.
جاءت جملة "الجغرافيا هي القدر" لنابليون بونابرت في أولى صفحات الرواية لتمنح القارئ إحساس الدخول من باب مفتوح بشكل غير كامل إلى عالم فسيح، لا يتكئ فيه أحمد مجدي همام على نفسه من منطلق الكتابة الذاتية بالرغم من تشابهه مع بطل روايته، ولكنه منح نفسه قدراً أكبر من الحرية في عمله الذي أتى غلافه بثمرة الرمان في إشارة للنبيذ الفاخر الذي تنتجه أرمينيا من الرمان. وبما أن الكتابة لا تتم إلا من خلال معرفة تامة بحسب تعريف أحمد فإن جزءاً قد يكون غير مشوّق في التاريخ الإنساني لأنه مُلتبس وظلامي بشكل كبير بدا له مادة روائية دسمة تحمل في تفاصيلها الصغيرة العديد من الفتن.
يؤكد لي أحمد أن ماجدة سيمونيان بطلة روايته بكل التي تمكن براعة في تقديمها كشخصية روائية تكاد تكون مخلوقة من العدم بلا أساس مادي، ولكنها وُجدت في مخيلته الروائية التي تمزج البحثي والاستقصائي بالخيال اللازم لإنتاج عمل أدبي، لأن الأدب في أساسه لا يمكن أن يكون إلا حكاية جيدة تصلح للسرد في كل مكان.
رقصة ريتا وكل ما أعرف، تعدد الرواة لصنع رواية رائعة
هنا أكتب عن "كل ما أعرف" الرواية الصادرة عن دار العين المصرية للكاتب "علي قطب" والتي فتحت لي المجال لطرح العديد من الأسئلة بعد الانتهاء منها حول الأدب والصداقة والحب، وحول الألوان!
في روايته يطرح قطب معضلة سِدة الكتابة علانية على قُرائه، ويُشركهم معه في الأزمة الوجودية التي تدفع إحدى شخصيات العمل لتخطي كل المحظورات لصنع رواية واقعية. رغم مرور وقت طويل على حديث علي قطب عن هذه الرواية إلا أن كلماته عنها ما زالت تدور في ذهني كلما استحضرت شخصياته في ذهني، نحن نشبه الشخصيات الروائية؛ لا شر مطلقاً ولا خير مطلقاً، نحن رماديون.
في الرواية نظن أن البطل يتعرض للخيانة من زوجته غدير، ولكن حينما تحكي هي الحكاية نكتشف أنها تتعرض للتلاعب من حبيبها الذي لا يشغل باله إلا في وضعها في حبكته الروائية لصنع نص عظيم، بينما نعرف في نهاية الرواية أن شخصية "أحمد محفوظ" ليست هي الشخص السيئ الوحيد في العمل ولكن وقتها يكون الأوان قد فات.
علي قطب يستخدم خبراته العملية في مجال الهندسة ليخدم موهبته في كتابة الرواية والسيناريو، ليُقدم لنا نصاً من عدة طبقات، ما أن ننتهي منه حتى يدفعنا لقراءته مرة أخرى للغوص في طبقاته من جديد. لا يُشير عنوان الفقرة لعقد المقارنات، ولكنه يأتي من إطار بسيط يمكنه أن يحمل جوانب متشابهة بين عملين أو أكثر. أتت رواية "رقصة ريتا" الصادرة عن دار "نون" للكاتبة "جيلان صلاح" في إطار الرواية ذات الأصوات المتعددة، ولكن ريتا هنا تمتلك المساحات الأكثر تأثيراً في قارئها.
ولأن كل قطعة فنية تمتلك إطارها الخاص فهنا الإطار كان قصة فتاة الباليه والصعيدي الهارب من الثأر، بينما في العمق نجد تعدد راوة آخرين وتفاصيل أعمق وأكثر حميمية عن الجسد والحب، الغصب والكراهية والحب الذي يؤلم أطراف الجسد وصمامات القلب. رقصة ريتا رواية شاعرية، يمكن قراءتها باعتبارها رواية عن الجسد بكل تفاصيله بلا خجل، ويمكن مع القراءة الثانية لها نكتشف أنها رواية عن المقدس والمحظور والموروث الذي لا هرب منه. أنا أقول إنها رواية مرهفة، تحمل في كل صفحة تجربة قد نكون مررنا بها يوماً ما، وتصفعنا كل حكاية جانبية بداخلها إلى التوقف والبحث في السجل الشخصي عن أشخاص لهم نفس صفات أبطال العمل ولكننا لا نعرف عنهم شيئاً لأنهم لا يبوحون بأسرارهم.
ليست كتابتي هنا عن كل ما قرأته، وليست بالطبع عن أفضل ما قرأته على الإطلاق، ولكن كتابتي هنا عن أعمال علقت في ذهني، ولفتت انتباهي بشكل أكبر من المعتاد. لا يهم كم كتاباً تقرأ لأن مع المزيد من الرحلات داخل عالم الأدب تكتشف أن لكل رحلة جمالها الخاص، ولكل قراءة لنفس العمل اكتشاف جديد لتفاصيل أكتر؛ لذا فإن كل قراءة مؤثرة هي قراءة جديرة بالحديث عنها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.