الثقافة هي مهنة قيادة وسوق الجماعات للنزاع والصراع مع التدني والترهل والانحطاط، لا مهنة للتسوية والتطبيل للهدوء والقبول بالمستويات الدنيا للحقوق وإقناع الناس بمستوى محدد ومعين.
وهنا القصد أن المثقفون لا يصنعون التعايش؛ بل يصنعون التقدم، وهذان مفهومان مختلفان بصورة كبيرة، فالتعايش بطبيعة الحال وبصورة عامة بعيدة عن تمظهراتهِ هو عملية منهجية بسقف محدد بحدود معنوية وقانونية وعرفية يُستهجن تجاوزها دائماً ويعاقب عليها أحياناً.
أما التقدم فهو عملية صراع تسارعية لبلوغ أهداف الأهداف، وهنا نعني أن كل مستوى مرتفع هو قاع جديد لمستوى آخر، ولا يوجد موقع ثابت أو مستوى للسمو والارتقاء؛ بل هي عملية ديناميكية مستمرة تستهدف ما بعد البعد ونهاية النهايات.
وبهذا فإنهُ حتى للمثالية هنالك مثالية أعلى منها، وهي حالة مستمرة، وهذا هو مشروع العملية الثقافية الحية الفعلي، والذي هو عبارة عن نزاع مع كل طبقة صلبة باتجاه المثالية اللامتناهية، ووظيفة المثقف هنا هي عملية هدم الطبقة التي بلغها باتجاه طبقة أعلى منها.
في البلدان التي تعاني من التغيير الديموغرافي المستمر والتغيير السياسي المستمر والاحتلال المتعاقب، لا يمكنها أن تنجز نسق ثقافي وهوية ارتباط تؤسس لخطوط متوازية لخلق عدد من المدارس الثقافية لإنتاج المثقف القائد والمجدد والحياة المتحركة.
بل هي دائماً تحاول التعايش والإغلاق نسبة إلى هاجس الخوف من التجديد والتحديث وتعتبر المغامرة والانطلاق عقبتين ودخيلتين، وهنا يتحول النسق من الخلق إلى الغلق، وهنا يبدأ الخوف بل والمكافحة لكل ما هو مختلف ومحدث وكاسر لما هو نسق إغلاق لهذا المجتمع.
وهكذا لاحظنا عملية تحريم التعليم وحرمة ركوب القطار والحقوق السياسية وممارستها في العراق، خاصة عند بداية نشوء الدولة وما قبل إعلان تأسيسها أي قبل قرن ونصف من الآن.
وهذهِ دلالات واضحة على كمية التعايش مع الإغلاق والخوف لكل ما هو جديد، وذلك لهاجس سيكولوجي عام وهو الخوف من الوافدين مهما كان نوعهم معنوياً أو مادياً.
في العراق بصورة عامة هنالك عملية وصفية لا عملية حركية أو مشروعية للمثقف، أي إن مصطلح المثقف العراقي هو عملية وصفية لمجموعة لها من الكم المعرفي الكبير والهائل ولها من الصفات المتعددة التي ربما تفوق دولاً متقدمة.
فهناك آلاف الشعراء والكتاب والسياسيين وفقهاء القانون واللغة ومئات الآلاف من الشهادات الجامعية العليا وكم هائل من التوجهات الفكرية الحديثة، ومئات من المقاهي الثقافية التي يتصارع فيها الناس حول المعارف وكم هائل من المهرجانات التي يتبارز فيها الأشخاص أصحاب العضلات المعرفية والأدبية، ولكن كل هذا هو عبارة عن جماعة من الموصوفين بالثقافة، ولم يكونوا مثقفين بالدرجة الأساس وأصحاب مشاريع صدامية مع التخلف والانحطاط.
والدليل على هذهِ القصة هي الواقعية الحياتية التي يفرزها المجتمع، وعلى رأسه المثقف والتي تتمثل بالعملية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والحياة العامة، وهذهِ المفاصل في العراق مسرطنة على مدى عقود طويلة؛ بل وقاتلة وهذا له أسباب تاريخية أبعد من هذا الزمن المعاصر.
كان المفترض بعد نشوء الدولة القومية وضمنه الدولة العراقية تواجد نمو جيل مثقف قائد للعملية الاجتماعية وتقدمها؛ ولكن ما حدث بالضبط هو عملية دمج العنوان مع المهنة الفعلية للثقافة ووسم كل ما هو مختلف شكلاً أو مضموناَ عن السائد الرجعي والمتخلف بالمثقف.
هنا أصبحت لدينا عملية جديدة، وهي عملية استلاب وتصدير عنوان المثقف في العراق لصالح جماعات جديدة من المشاهير أدبياً أو معرفياً، وغير ذلك، ومهاجمتها مما تثبت تهمة الثقافة عليها.
هذهِ عملية قديمة عمرها ما قبل تأسيس الدولة العراقية، ابتدأت بنبذ الأفندي من قبل ابن الريف، وبعدها نبذ المتعلم من قبل الطوائف الدينية والاجتماعية، وتم تمييزهم على أنهم مثقفون، والمثقف بالتالي يشكل كائناً متهماً دائماً وخطيراً على الإغلاق القبلي والديني المريح.
مما جعل المثقف الحقيقي لا قيمة لهُ ولا مضمار للسير؛ بل جعلهُ بحالة كساد وعطل عن الحركة بسبب دمجه بتطورات المجتمع الشكلية بفعل الحداثة، وهكذا اختلط الحابل بالنابل بين المثقف الفعلي والمتعلم والأفندي، وبهذهِ الضبابية لم يكن للمثقف تعريف واضح متفق عليه اجتماعياً؛ حيث أصبح كل من لهُ تعلم أو معرفة مثقفاً، واستمر الحال ليومنا هذا وأصبح كل مشهور على مواقع التواصل والظهور الإعلامي على سبيل المثال مثقفاً، وهذا ما صنع مسافة ضخمة بين المجتمع والمثقف، فكل انحطاط من وجهة نظر المجتمع مصدره الثقافة.
وبسبب هذهِ المسافة أصبح المثقف متهماً مرة أخرى بخرق القيم والعادات والتقاليد، وتطور ذلك إلى حزم من القوانين الحكومية لردع كل نزعة ثقافية مؤسسية لفرد مثقف أو مؤسسة ثقافية، وجعلت الكل عرضة للمحاسبة القضائية والإقصاء.
إذا كانت الثقافة مهنة فماذا نصف التخلف؟
بطبيعة الحال لا توجد مهنة لا تحرك ساكناً والثقافة إذا لم تكن مهنة فلا قيمة لها، فهي بهذه الحالة تنخرط ضمن إطار فوتوغرافي لا أكثر لا يمكنها تجاوز أسوار الصورة النمطية.
على المثقف أن يعتقد فعلياً أن الثقافة مشروع ومهنة للممارسة لا وصفاً لإنجاز صامت او ساكن، فالثقافة وظيفة حركية تؤدي إلى هدم وبناء أو بناء حديث.
التخلف والانحطاط عبارة عن عملية تعطيل أو موت أو هدم، فكل عاطل عن العمل أو متبلد أو ساكن هو مشروع مضاد للحركة الثقافية، ولذلك أعتقد أن نقيض الثقافة هو التخلف كما نعرف، ولكن بالتفصيل والتخصيص أن كل سكون أو كل معرفة لا تؤدي إلى حركة أو مشروع هو انحطاط مهما كان عنوان المشروع، فمثلاً العملية التعليمية إذا أنتجت جيلاً غبياً فهي عملية عاطلة عن العمل، فهي مثل المعامل التي تنتج بضاعة فاسدة، وهي بالتالي لم تعطل المجتمع بل هي تسهم في طمس وانحطاط المجتمع.
ماذا نحتاج من نوعية المثقفون لقيادة هذهِ المرحلة؟
باعتقادي أننا يجب أن نسمي ونعرف المثقف من جديد وننتشله من خانة الوصف إلى الفعل، وبهذا نحن نصف الموظف الثقافي أو الجندي الثقافي وتنقذه من كرسي المقهى إلى ساحة المواجهة، وبهذا نحن نعيد تركيب العنوان الحقيقي للمثقف القائد أو المثقف الفاعل.
نحن بالفعل نفتقد لطليعة مثقفة فاعلة مواجهة وصدامية مع الأسلحة والقمع والدكتاتوريات وتردي الأحوال الفكرية، وهذا الموضوع ينخرط بسبب تأريخ المثقف العراقي المطبع بالعادة مع الأنظمة من حيث يعلم أو لا يعلم، والأسباب المعنوية التي ضاع فيها المثقف مع بقية الموصوفين بهذا المصطلح أو أسباب أخرى.
ما نحتاجه بالفعل هو طليعة مثقفة بأعداد منطقية تؤمن بحقوق الإنسان الفردية ومتطلباتهِ بالدرجة الأولى، وبالدرجة الثانية تؤمن بأن تنظيم هذهِ الحقوق مشروط بعدم الإضرار بها مهما كان شكل النظام السياسي الذي تقترحه تلك الطبقة المثقفة، والذي تقنع بهِ الجماهير، كذلك تؤمن هذهِ الطليعة بالتقدم والصراع والتطور والحداثة والتنوع.
أعتقد أن الجيل القادم هو جيل جاهز للصدام والموت من أجل أعلى الحقوق وأدناها، ولكنه يفتقر لقيادات وطليعة مثقفة تؤسس مشروعاً يضمن استمرار وتنظيم هذهِ الحقوق للأجيال القادمة، وهذهِ المحنة الحقيقية لظروف ما بعد الانقلاب الاجتماعي والثورات، حيث إن الانقلابات الاجتماعية والثورات لن تكون بالضرورة بطليعة قيادية مثقفة، ومن الطبيعي أن تقودها ظروف عامة مشتركة.
فبعد عام 2020 بانت ملامح الانقلاب الاجتماعي بالتمام والكمال من ناحية السلوك العام الذي تحكمت بهِ العوامل الاقتصادية بالدرجة الأساس والعولمة بصورة عامة، وهذا ما يجعلنا نراعي موضوع إعادة تعريف المثقف بصورة دقيقة؛ لنتمكن من زرع بذرة النسق الثقافي العام المتحرك المولد للتنوع والأنساق الأخرى التي بدورها تحرك المجتمع إلى التقدم بكل مجال إنساني.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.