ستتحول الكمبيوترات إلى أجهزة تقليدية، والهواتف إلى لُعب أطفال، والإنترنت إلى شبكة ثقيلة ومهترئة، وكل المعلومات السِّريَّة السياسية والعسكرية مخترقة، فليس هناك تشفير بعد اليوم خارج الأنظمة الجديدة للكمبيوترات، التي سُميت بـ"الكمبيوتر الكمي". والذي سنتناوله في هذا المقال الفيزيائي، الذي يحتاج إلى خيال واسع، فالعلماء أنفسهم أُصيبوا بالذهول والدهشة، فهو صعب حتى على أهل الاختصاص، ولكن سنراهن على ذكائهم، والنخبة على فضولهم، للاطلاع على مثل هذا المُسْتَجد، الذي يمكن أن يُحدث ثور تكنولوجية، ويغير العالم بشكل مخيف.
"الكوانتوم كمبيوتر":
أو الكمبيوتر الكمي، أو الكمومي، هو الكمبيوتر الجديد الذي سيشعل ثورة في التكنولوجيا، والذي يعتمد على نظام ما يسمى بـ"الكيوبيت" بدل "الترانزيستور"، والذي سينقل البشرية إلى تكنولوجيا أشبه بالخيال، وهي التجارب التي ظل يحوم حولها العلماء قرناً من الزمان، ولم يستطع أحد إثباتها. حتى جاء العلماء الثلاثة: الفرنسي "آلان أسبيكت" " Alain Aspect"، والأمريكي "جون كلاوسر" "john Clause"، والنمساوي "أنتون تسايلينجر" "Anton Zeilnge"، وأخذو بها جائزة نوبل، مستحقة من "الأكاديمية الملكية السويدية". يوم 04 أكتوبر/تشرين الأول 2022م.
إثبات خطأ أينشتاين:
وهو السؤال الكبير الذي لفت النظر إليه أينشتاين نفسه، ثم أنكره، لكنه أقر بأنه أمام شيء مخيف، وتوصّل إليه "بوهر" "ورذرفورد"، اللذان كانا في خلاف مع "أينشتاين".
وأكد صواب نظريتهما العالم "ستيوارت بيل" "john stuart bell"، لكن التكنولوجيا خذلته فلم يستطيع أن يصل إلى إثباتٍ كافٍ على صحة التجربة.
حتى جاء العلماء الثلاثة وأثبتوا بالتجربة، صحة "التشابك الكمي" وخطأ نظرية النسبة لأينشتاين.
ولكن هذا لم ينفِ الفائدة الكبيرة التي استفادت منه التكنولوجيا في عمل "الليزر" و"الترانزيستور" و"المايكرو بروسيسور"، الذي يشكل المادة الأساسية لعمل الكمبيوترات والتلفونات الحديثة والروبوتات.
نظرية التشابك الكمي:
وهي نظرية "التشابك الكمي" أو "الكمومي"، والتي تعتبر اختراقاً كبيراً لفيزياء الكم، طَوَتْ قرنًا كاملاً، تربَّعت عليه "النظرية النسبية" لـ"إينشتاين"، "Albert Einstein". وهو الذي استطاع أن يثبت بما لا يدع موطئاً للشك، بأنه لا توجد سرعة أكبر من سرعة الضوء (300 ألف كلم /ثا).
واستطاع أن يثبت الطبيعة الموجية للإلكترون، وأخذ جائزة نوبل في النظرية الكهروضوئية. وعمَّق أبحاثه على الأجسام الصغير الذرية، ومن أهم نظرياته (E=mc2)، في العلاقة بين الطاقة والكتلة، وأحدثت تلك النظريات، ثورة تكنولوجية.
غير أن المبدأ الذي اعتمد عليه أينشتاين، والذي أثبت العلم خطأه أخيراً، هي "مبدأ اليقين"، وأن هذا الكون مبني على أشياء ثابتة ومحسوبة بدقة، ومن السهل أن تستقر هذه الفكرة في أي عقل بشري، ويقبلها بسهولة، لأنها تقترب من منطلق عقائدي، بأن الله خلق الكون ورَتَّبَه، ولا يمكن أن يسير بعشوائية أو بالاحتمالات.
ولكن "أينشتاين" نفسه وضع نقطة استفهام كبيرة، وبقى الشك يراوده، في "أن هناك أشياء خَفِيَّة ومُذْهِلة ومُخِيفة داخل هذه الأجسام الصغيرة، يمكنها أن تُحدث ثورة كبيرة".
وصار الخلاف عميقاً بينه وبين العَالمَيْن "بوهر" "Niels Bohr"، و"شرودينجر"، "Erwin Schrodinger"، عندما تطرقا إلى فيزياء الكَم، وفسرا حركة الإلكترون. في المثال المشهور بـ"قطة شرودينجر"، لأن نظريتهما ترتكز أساساً على مبدأ "عدم اليقين" أو مبدأ "عدم التأكد"، خلافاً للمدرسة التي ينتمي إليها أينشتاين، المبنية على مبدأ "اليقين".
وهو المبدأ الذي استطاع أن يثبت صحة فيزياء الكمومي، أو ما يسمى بالتراكب أو التشابك الكمي.
واستمر الخلاف لـ30 سنة، حتى قام العالم "جون ستيوارت بيل" "john stuart bell" بتجربة جديدة، لِيُحَكِّم بين النظريتين، ويفسر الخلاف بين أينشتاين وبين "بوهر" و"شرودينجر".
وقام بعدة تجارب على الجسيمات المتشابكة، وكان يقوم بالتجربة عندما يقيس، وعندما لا يقيس، وتوصل، بما لا يدع مجالاً للشك، بأنه يوجد ارتباط بين النتائج وتأثير القياس عليه، وأثبت خطأ أينشتاين، وصحة التشابك الكمومي. وسماها باسمه: "bells inequality".
جائزة نوبل 2022 والثورة التكنولوجية الجديدة
فالاكتشاف من الناحية النظرية قديم، لكن التكنولوجيا المتاحة قبل اليوم لم تكن لتسمح بالتجربة، حتى جاء أول فائز بجائزة نوبل، العالم الأمريكي "جون كلاوسر john Clauser" سنة 1972م، وقام بتصميم تجربة تستطيع أن ترصد التأثير، الذي اقترحه بيل "stuart bell"، وأصيب بالدهشة لما أثبتت أن التشابك الكَمِّي كان حقيقياً، وأن "أينشتاين" الذي كان يؤيده كان على خطأ، وأحدثت هزة كبيرة في الوسط العلمي.
ثم قام العالم الفائز الثاني الفرنسي "آلان أسبيكت" "Alain Aspect"، بتكرار التجربة وغيّر فيها أشياء بسيطة، وقام بإبعاد كل تأثير للعنصر البشري، وأكد نفس النتيجة.
ثم قام الفائز الثالث النمساوي "أنتون تسايلينجر" "Anton Zeilnger" سنة 2017م. بتكرار التجربة، وقام برصد التشابك الكمي في عدد أكبر من الجسيمات، وتوصل إلى نفس النتائج، ليزيل جميع الشكوك التي يطرحها مؤيدو النسبية.
ومن هنا تأسس فرع جديد في العلوم الفيزيائية الحديثة، مبني على الفيزياء الكمية سمي بـ"المعلومات الكمية العلمية" "quantum informaton science"، حيث يمكن نقل المعلومات في الفضاء على أبعد المسافات المتخيلة بشكل فوري.
ويمكن أن نصمم حواسيب متطورة مبنية على الفيزياء الكمية هي "الحواسيب الكمية "quantum computers" وتكون سرعتها لحظية، مقارنة بسرعة الحواسيب التقليدية، وتصبح شبكة إنترنت بالتكنولوجية الكمية أسرع، و"تكنولوجيا تشفير" "quantum encryption technology" مستحيلة الاختراق.
ولهذا استحقوا جائزة نوبل بجدارة واستحقاق، لأنها تمثل حقبة جديدة في حياة الأجيال الجديدة.
الدول العظمى تسابق نحو دعم المشروع:
وبدأت الدول العظمى تتحسب لهذه الثورة التكنولوجية، في مجال "حواسيب الكوانتم" وفتح الرئيس ترامب "المبادرة الوطنية الأمريكية للكوانتم بـ1.2 مليار دولار".
ودعم الاتحاد الأوروبي المشروع بمليار دولار، وأعلنت الصين قبل سنتين بأنها أسست "مركز للدراسات التطبيقية" في معلومات الكوانتيم، ورصدت له 10 مليارات دولار.
الكمبيوتر الكمي والتشفير الجديدة:
وبتعريف مبسّط لعمل الكوانتم كمبيوتر، أن الحواسيب القديمة تعمل على مبدأ "البيت" أي الأرقام الثنائية (0 1) وهي معلومات متكونة من أرقام متسلسلة، يقوم الحاسوب بمعالجتها كمعلومات من خلال "المايكرو بروسيسور" الذي يحتوي على ملايير الترانزيستورات، والذي يعمل من خلال التحكم بمنع أو مرور التيار حسب تسلسل البيت (.. 1010010010100..) لكنه مضطر أن يمر على كل الاحتمالات، وهذا يستغرق وقتاً مهما كانت سرعته.
أما الحواسيب الكوانتية، فتعمل وفق نظام "الكوانتم بيت"، ووحدته الأساسية هي: "الكيوبيت"، وهو نفس نظام الرقم الثنائي (0 1) لكنه يعمل من خلال العدد اللانهائي من الارقام بين (0.1)، ويتطرق لكل الاحتمالات بشكل لحظي، ومن خلال قراءة جزء من المعلومات تتحصل على باقي المعلومات كلها مرة واحدة في زمن لحظي.
لنقول أخيراً، بأننا لسنا أمام نظرية جديدة، من أجل تطوير وتحسين الموجود، وإنما نحن أمام فرع جديد، سيغيّر نظرتنا للكون والوجود.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.