أعلن البنك المركزي المصري، في مساء يوم الخميس، 22 ديسمبر/كانون الأول، رفع أسعار الفائدة 3 نقاط مئوية. وبهذه الزيادة الكبيرة التي فاجأت الجميع، يكون البنك المركزي المصري خلال 2022 قد رفع أسعار الفائدة 8 نقاط مئوية بهدف القضاء على التضخم الآخذ في الارتفاع، ومن أجل جذب استثمارات أجنبية لأدوات الدين وأذون الخزانة الحكومية، بعد خروج نحو 20 مليار دولار من الاقتصاد المصري، عقب الأزمة الروسية الأوكرانية.
وفي 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، كان المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي قد وافق أخيراً على منح مصر 3 مليارات دولار خلال 46 شهراً، على أن تُصرف دفعة فورية تعادل 347 مليون دولار أمريكي، للمساعدة في تلبية احتياجات مصر العاجلة من العملة الصعبة. ويتوقع الصندوق أن يشجع هذا الاتفاق الشركاء الدوليين والإقليميين على إتاحة تمويل إضافي لصالح مصر بقيمة 14 مليار دولار.
وهو النبأ الذي كان مخيباً لآمال الحكومة المصرية التي انتظرت هذا الاتفاق طويلاً على مدار 7 أشهر من المفاوضات والمباحثات، وتوقعت صرف 750 مليون دولار كشريحة أولى، ولكن الصندوق منحها ما يقارب نصف المبلغ، ووضع شروط صارمة من أجل تنفيذ مصر لبرنامج الإصلاح الاقتصادي.
واشترط صندوق النقد الدولي فك القيود التي تضعها مصر على سوق العملة الأجنبية، وإلغاء شروط الاعتماد المستندية، التي تسببت في تكدس الواردات والبضائع في الموانئ. وفي حوار وكالة "رويترز" مع رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر، تقول: إن الصندوق سيراقب، عن كثب، تحول مصر إلى سعر صرف مرن بعد إلغاء الاعتماد المستندية نهاية الشهر الجاري.
التعويم المنتظَر
كانت الحكومة المصرية قد أقرت اعتماد سعر صرف مرن للجنيه مقابل العملات الأجنبية للمرة الأولى خلال هذا العام خلال مارس/آذار وانخفض الجنيه المصري بنحو 20% حينها، وفي أكتوبر أعادت الكرة باتخاذ نفس الإجراء امتثالاً لشروط الصندوق، وتركت سعر صرف العملة استناداً لآلية العرض والطلب في السوق، وهو ما دفع الدولار للصعود خلال شهر إلى 24.6 جنيه حينها، لتكون العملة المصرية بذلك قد فقدت نحو 57% من قيمتها منذ مارس/آذار الماضي.
وهو ما جعل العملة المصرية هي الأسوأ أداء في العالم، حيث تراجعت العملة المصرية إلى أدنى مستوياتها وتتداول في ديسمبر/كانون الأول عند 24.6 مقابل الدولار. وعلى الرغم من أن مصر نظرياً قد التزمت بقرار الصندوق بإجراء تحرير لسعر العملة مرونة أسعار الصرف وتركت العملة المصرية لآليات العرض والطلب، ولم تتدخل مثل السابق من خلال ضخ احتياطات من العملة الأجنبية لدعم الجنيه، فإنها تحكمت في تثبيت سعر الصرف عن طريق وسيلة أخرى وهي تحجيم الطلب على العملة ووضع قيود على تعاملات الأفراد وتعطيل طلبات المستوردين. وهو ما جعل الجميع يرى العملة المصرية مقيمة بأعلى من قيمتها، ومنح السوق السوداء البيئة المناسبة لتداول العملة خارج النظام المصرفي بأسعار جنونية للعملة الأجنبية.
وبحسب "رويترز" فإن الصندوق لم يعد يكتفي بتحرير سعر الصرف فقط، وأنما اشترط على مصر ترك سوق العملة الأجنبية يعمل بحرية، وأرسل بعثة إلى القاهرة لمتابعة أداء الحكومة في تنفيذ برنامج الصندوق الذي يستمر 4 سنوات، وربط منح بقية شرائح القرض بتنفيذ الحكومة لإجراءات البرنامج. وتتوقع رئيسة بعثة صندوق النقد الدولي في مصر أن الحكومة المصرية ستبدأ في الإفراج عن الواردات المكدسة في الموانئ قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول الحالي. ثم يعقبها مباشرة في أول يناير/كانون الثاني تحرير سعر العملة للمرة الثالثة خلال أقل من عام.
ويبدو أن صندوق النقد الدولي هذه المرة أكثر حدة وصرامة في تعامله مع مسألة مرونة العملة، ولا يريد تكرار ما حدث في القروض السابقة، وهو ما يظهر بوضوح في بيان الصندوق بشأن الموافقة على القرض، وفي التصريحات التي نقلتها وكالة "رويترز" عن "إيفانا فلاديكوفا"، رئيسة بعثة الصندوق التي تتابع وتراقب أداء الحكومة المصرية في القاهرة.
كما يأتي قرار الحكومة المنتظر بتحرير سعر صرف الجنيه وتركه لآلية العرض والطلب في السوق، تماشياً مع رؤية المؤسسات المالية القائلة إن العملة المصرية مُقيمة بأعلى من قيمتها الحقيقية، وفقاً لسعر الصرف الفعلي لها، حيث ترى معظم هذه المؤسسات أن الجنيه يحتاج إلى التراجع أمام الدولار لمساعدة الاقتصاد على التكيف وجذب الاستثمارات الأجنبية وتعويض خروج 20 مليار دولار من اقتصادها خلال العام الحالي. من أجل تقليص فجوة التمويل. حيث تحتاج إلى 28 مليار دولار حتى نهاية 2023 من أجل عملية إعادة سداد فوائد ومستحقات الديون، وتمويل عجز الحساب الجاري.
لذلك، فإن لجوء مصر مرة أخرى لخفض قيمة العملة ليس خياراً أمامها، وإنما فرض عليها، بسبب الموقف الضاغط للاقتصاد المصري والضغوط الناجمة عن العديد من الأزمات الهيكلية المتراكمة، والتي كانت موجودة ولكنها تفاقمت مع بداية العام الجاري بسبب تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا.
إلى أي مدى سينخفض الجنيه؟
وبعد أن أصبحت متابعة سعر الجنيه أمام الدولار والعملات الأجنبية من الأمور الروتينية التي يداوم عليها المواطنون المصريون منذ بداية 2022، باختلاف طبقاتهم الاجتماعية والشرائح التي ينتمون لها، بحيث لم يعد الأمر مقتصراً على المستثمرين وأصحاب الأعمال. لذا يُثير قرار الحكومة المنتظر بشأن مرونة العملة الكثير من التساؤلات، والرغبة المُلحة لدى غالبية المواطنين في معرفة إلى أي مدى سينخفض الجنيه المصري هذه المرة، بعد أن سبق أن هوى إلى مستويات غير مسبوق؟
في هذه المرة كما سابقتها لا يعرف أحداً يقيناً السعر الذي سيستقر عليه الجنيه، في ظل الغموض الذي يغلب على سياسات الحكومة المصرية. ويتوقع الخبراء أن الجنيه سيواصل الانخفاض أمام الدولار خلال الفترة المقبلة، نظراً لحجم الطلب المتراكم على الدولار بسبب القيود التي يضعها البنك المركزي على الاستيراد، والتي تُقدر بأكثر من 5 مليارات دولار من الشركات والمستوردين للحصول على العملة الصعبة، وهو ما يضع ضغوطاً متزايدة على الجنيه.
ووفقاً للخبراء الذين تحدثت معهم "وكالة بلومبيرغ"، فإن العملة المصرية من المتوقع أن تنخفض بنسبة 6% خلال شهر ديسمبر/كانون الأول، لتصل إلى 26.5 مقابل الدولار. فيما يُجري المستثمرون وتجار المشتقات مضارباتهم على العملة المصرية، ويراهنون على تراجع الجنيه المصري بنسبة تصل إلى 20% خلال الأشهر الـ12 المقبلة. حتى يصل إلى نحو 30.9 جنيه مقابل الدولار.
وتتوقع إيفانا، رئيسة بعثة الصندوق في القاهرة، إنه بمجرد بدء التعويم في بداية يناير/كانون الثاني من العام الجديد، سيكون هناك تقلبات كبيرة في سعر صرف العملة وبشكل مستمر ويومي. ومن المتوقع أن يستمر هذا التأرجح في سعر الصرف خلال الأشهر الأولى من العام، إلى أن يعود للاستقرار من جديد.
اتجاه السوق السوداء
وإذا كانت الأسئلة المتعلقة بمعرفة القيمة التي سيصل إليها سعر صرف العملة المصرية لدى البنك المركزي هي الأكثر إلحاحاً، فإن الأسئلة التي تتعلق بالقيمة التي سيكون عليها الجنيه في السوق السوداء لا تقل أهمية عن الأولى، وتسير جنباً إلى جنب معها، بحيث لم ينفصلا عن بعضهم البعض داخل الشارع المصري، بل ربما أن الأخير يفوق أهمية بالنسبة لقطاعات كبيرة من المواطنين الذين لا يستطيعون الحصول على العملة الصعبة بسبب القيود المفروضة عليها.
وفي فبراير/شباط الماضي كان البنك المركزي المصري قد أقر قانون الاعتمادات المستندية، ووضع قيوداً على الاستيراد بسبب عدم توفر عملة أجنبية لتلبية طلبات الاستيراد، والخوف من استنزاف الاحتياطي النقدي الأجنبي لدى البنك المركزي، وهو ما أدى إلى ازدحام الموانئ المصرية بالبضائع التي تحتاج إلى اعتمادات دولارية من أجل الإفراج عنها، وهو ما لا يتوفر في البنوك. لذلك لجأ المستوردون والتجار وأصحاب الأعمال إلى السوق الموازي لتوفير عملة أجنبية، يمكنهم بها تخليص بضائعهم ومنتجاتهم المكدسة في الموانئ.
وهو ما جعل نشاط السوق الموازي رائجاً، ويلعب سعر تداول العملة بها دوراً في ارتفاع الأسعار، ويرى "غولدمان ساكس" انه بسبب شح الدولار في البنوك المصرية، أصبح سعر الدولار في السوق الموازي مبالغاً فيه، حيث يجري فيها تداول الدولار بما يصل إلى 36 جنيهاً، أي إن قيمة الجنيه أقل من سعره الرسمي بنحو 33%. وفي حديثه لـBBC يقدر الدكتور وائل النحاس المستشار الاقتصادي أن حجم تعاملات السوق السوداء داخل مصر تصل إلى 8 مليارات دولار.
ويرى البنك الأمريكي أن استمرار عدم توفر العملات الأجنبية في البنوك والمعاملات الرسمية قد يؤدي إلى إلحاق الضرر بالاقتصاد المصري، لأن السوق الموازي يجعل الجنيه المصري مقوماً بأقل من قيمته الحقيقية، وهو ما يؤدي للدخول في دوامة من تخفيض قيمة العملة وارتفاع التضخم. كما أن الفشل في استقرار سوق الصرف يؤدي إلى حالة من عدم اليقين، فيما يتعلق بالاستثمار المحلي بسبب صعوبة الحصول على الواردات.
أي إن قيمة تداول العملة الصعبة في السوق السوداء تتعلق بتوفرها داخل النظام المصرفي، ولا تقتصر فقط على تحديد سعر الصرف، وإذا استطاعت الدولة توفير العملة، ومنها الدولار، فإن أسعارها تنخفض داخل السوق الموازي وتقترب من مستويات سعر الصرف الرسمي.
وهو ما حدث نوعاً ما خلال الأيام الأولى لقرار البنك المركزي في أكتوبر الماضي بتحرير سعر الصرف وإلغاء الاعتمادات المستندية تدريجياً، حتى إلغائها بالكامل في ديسمبر، وعلى الرغم من انخفاض سعر صرف الجنيه بنسبة 20% حينها ووصله عند 24.6 مقابل الدولار. إلا أن توفر العملة الصعبة داخل النظام المصرفي ولو كان على استحياء، فقد جعل تداول سعر الصرف في السوق الموازي يقترب من سعر التداول الرسمي، حيث وصل إلى نحو 25 جنيه مقابل الدولار. ولكن ما هي إلا أيام قليلة حتى عادت أزمة الدولار إلى فرض نفسها من جديد، وتوقفت البنوك عن توفير العملة للمواطنين، وعطلت فتح اعتمادات مستندية أو مستندات تحصيل للمستوردين، وهو ما جعل سعر تداول الدولار يعود للارتفاع بقوة في السوق السوداء، ويصل إلى تلك مستويات القياسية.
أزمات ضاغطة تعصف بالعملة المصرية
يُعاني الاقتصاد المصري من العديد من الأزمات الضاغطة، ويواجه العديد من التحديات غير المسبوقة، وتأتي على رأس هذه التحديات:
أولاً تراجع الاحتياطات الأجنبية: وفي آخر بيان حول الاحتياطيات الدولية، قال البنك المركزي المصري إن صافي ما تملكه مصر من الاحتياطيات الأجنبية وصل إلى 33.53 مليار دولار خلال نهاية شهر سبتمبر 2022، ليكون قد تراجع خلال العام الحالي لأدنى مستوى بواقع 7.8 مليار دولار، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ يوليو/تموز 2017.
ولدى الدول الخليجية السعودية والإمارات والكويت وقطر، ودائع في البنك المركزي تقدر بنحو 28 مليار دولار، أي ما يقارب 84% من إجمالي ما يملكه البنك المركزي من الاحتياطي النقدي الأجنبي. وبعض هذه الودائع كانت مستحقة السداد خلال الأشهر المقبلة وتمت جدولتها. ودلالة هذا الرقم قد تستدعي القلق ليس فقط فيما يتعلق بمخاوف عدم قدرة مصر على سداد مستحقات الودائع، ولكن تتعلق أكثر بامتلاك دول سيادية قد تتعارض مصالح الدولة المصرية معها في بعض الملفات هذه النسبة الضخمة من الاحتياطي النقدي الأجنبي الموجود في البنك المركزي المصري.
ثانياً ارتفاع الديون الخارجية، وبحسب بيانات البنك المركزي المصري، فإن إجمالي الدين الخارجي وصل إلى مستويات مرتفعة مُسجلاً حوالي 155.708 مليار دولار. وتلتزم مصر بدفع مستحقات ديون خارجية بقيمة 33 مليار دولار في عام واحد من مارس الماضي حتى مارس القادم، وهو ما يعادل تقريباً كل الاحتياطي النقدي الأجنبي الذي تملكه الدولة، والذي يُقدر الآن 33.197 مليار دولار.
ويظهر تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزي المصري إن إجمالي الديون قصيرة الأجل، بلغ حتى مارس الماضي 42.1 مليار دولار. وهو ما يعني أن الديون قصيرة الأجل تمثل نحو 114% من احتياطي النقد الأجنبي.
ووفقاً لتقرير وكالة "رويترز"، يُفترض أن تسدد مصر من الدين الخارجي حوالي 100 مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة، منها 18 ملياراً خلال العام القادم 2023.
ويُظهر تقرير الوضع الخارجي الصادر عن البنك المركزي المصري، أنه في عام 2023 يجب على الحكومة المصرية دفع نحو 17.7 مليار دولار. وفي العام الذي يليه 2024 يرتفع حجم أقساط الدين والفوائد إلى 24.2 مليار دولار. وفي عام 2025 يجب على الحكومة دفع 15.1 مليار دولار. ثم يعود الرقم للزيادة عام 2026 لتسدد مصر 16.8 مليار دولار. ويكشف التقرير أنه من المتوقع أن تظل الحكومة ملتزمة بدفع فوائد وأقساط الديون الحالية حتى عام 2071.
ثالثاً الفجوة التمويلية، وكانت هذه الفجوة الذي يعانيها الاقتصاد المصري من أكثر الأسباب التي دفعت الحكومة المصرية لعقد الاتفاق مع الصندوق، حيث تقدر قيمة الفجوة التمويلية بنحو 16 مليار دولار، بحسب صندوق النقد الدولي.
وتمثل الفجوة التمويلية حجم النفقات الدولارية التي تحتاجها البلاد خلال عام ولا تجد لديها موارد مالية لتمويلها. وما ساعد على ازدياد الفجوة التمويلية سببين، أولهما هو العجز في الميزان التجاري الذي يحدث بسبب تراجع حصيلة مصر من السياحة وباقي الموارد، وانخفاض الصادرات مقابل الارتفاع الضخم في الواردات.
وبعد قيام الحكومة المصرية بتحرير سعر العملة، وتركها لآلية العرض والاستمرار في البرنامج الإصلاحي للصندوق، من المتوقع اتخاذ قرارات أكثر صدمة وإيلاماً للمواطنين خلال الفترة القادمة، من قبيل زيادة أسعار البنزين والكهرباء ورفع الدعم عن العديد من السلع الأساسية منها الخبز امتثالاً لمشروطية الصندوق. وسط مخاوف من أن تدفع هذه الإجراءات بفئات ضخمة إلى هوة الفقر بسبب ارتفاع تكلفة المعيشة وانخفاض القوة الشرائية للعملة محلياً ودولياً، ويحذر الخبراء من أن العام القادم ربما يصبح أصعب من سابقه على غالبية الشعب المصري من الطبقات الوسطى والفقيرة والمهمشة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.