بصفتي لم أكن أهتم كثيراً بكل ما يتعلق بكرة القدم، فإنني لم أسمع عن وليد الركراكي إلا منذ بضعة أشهر قبل الآن، حين تم تداول اسمه بشكل واسع النطاق على أثر تعيينه من طرف الاتحاد المغربي لكرة القدم مدرباً للمنتخب الوطني. آنذاك، كثر القيل والقال عن الرجل، وأشاد الكثيرون بتجربته مع فريق الوداد البيضاوي، في حين انتقد آخرون تكليفه بمهمة ثقيلة كقيادة أسود الأطلس خلال نهائيات كأس العالم 2022، على بعد 3 أشهر تقريباً من الحدث.
ثم انطلقت فعاليات المونديال، وبدأت رحلة المنتخب المغربي ضمن مجموعة -وصفها البعض بمجموعة الموت- دشنها بتعادل سلبي في أولى مبارياته، ليخرج بعدها الجمهور منقسماً بين من ينتشي بالنقطة المحققة، ويذكر أن المواجهة كانت مع وصيف نسخة 2018، وبين من يعبر عن كونه لم يكن يعقد الآمال الكبيرة على المنتخب الوطني في كل الأحوال… وبين الفئتين، فئات أخرى تعالت أصواتها وتباينت مواقفها وانتظاراتها، قاطعها صوت الركراكي الذي خلف الصدى الأكبر.
"ديروا النية…" هكذا هتف الناخب الوطني واختزل فلسفته، ليعمّق الجدل بين الجمهور من جديد؛ حيث رأى البعض في خطابه ترجمة لمعتقدات ذات أبعاد خرافية، مرتبطة بالخوارق ومبنية على أفكار تواكلية، يحاول من خلالها ربما تعويض عدم وجود رؤية واضحة وخطة دفاعية محكمة، قادرة على تأمين مرمى المنتخب، عوض تركها تحت رحمة النية التي –حسب ما فهم من قوله– تستطيع أن تحمي الشباك، وتجعل الكرة تضرب في العارضة وتخرج من تلقاء نفسها.
في الجهة المقابلة، كان هناك من لمسوا في تصريحاته شحنة قوية من الإيجابية، وتشبثاً بقيمة مغربية أصيلة ترتبط بقوة الإيمان، وتعزيز الثقة في النفس، وحسن الظن، والسعي باجتهاد، وتجنب الغش، وبذل الجهد وغيرها، من المبادئ والأفكار التي لا تتعارض أبداً مع المنطق العقلاني والواقعي الذي تستوجبه اللعبة، خصوصاً أن النية التي حث عليها الركراكي كانت مشروطة بالاجتهاد والكفاءة والاستماتة.
ثم حقق وليد أول أهدافه؛ ليس فقط المتعلقة بما حصل داخل الملعب، بل أيضاً خارجه، داخل رؤوس المغاربة وفي قلوبهم؛ إذ نجح في زعزعة أفكار الكثيرين، وجعل الأغلبية تلتف حول الفكر الجديد الذي جاء به، ملبين دعوته إلى التوحد والتفاؤل وتقديم الدعم للاعبي الفريق الوطني تحت شعار "سيييير، سيييير، سيييير…".
وفعلاً، سار المنتخب! سار على الدرب أطول وأفضل من المعتاد، ثم وصل إلى حيث لم يصل من قبل، بل ودخل التاريخ، وحقق نجاحاً استثنائياً، وتألق قارياً وعربياً، وترك بصمة لن تُنسى؛ وبقية القصة يعرفها الجميع تقريباً…
أثبت الركراكي كفاءته كمدرب، ونجح في امتحانه كقيادي، ليس فقط على مستوى الفريق، بل على مستوى الجماهير العريضة التي تابعته، ووثقت فيه، واستلهمت منه جرعات التحفيز والنية. وهذا الجزء هو أكثر ما استوقفني شخصياً، وجعلني أتخيل كيف كانت حياة الكثيرين لتصير بوجود أمثاله؟
وبكلامي هذا لا أقصد أن أنسب الفضل كاملاً للركراكي، ولا أن أتغاضى عن المجهود الذي بذله اللاعبون، ولا أن أتجاهل وجود جنود خفاء ساهموا حتماً في هذا الإنجاز، ولكنني فقط ألمّح لأهمية وجود شخص من طينة الركراكي كقائد فريق، وقدرته على إحداث تغييرات جذرية وملحوظة جداً وسريعة… ففي النهاية، بنفس العناصر التي كانت تشكل الفريق سابقاً استطاع المدرب الجديد أن يحقق نتيجة مختلفة، ما معناه أن وجوده هو الفارق.
في الواقع، يمكننا جميعاً أن نتخيل وجود ركراكي في محيطنا، سواء الشخصي أو المهني… سنعجب غالباً بالنسخة الجديدة من واقعنا وسندرك ربما أننا، فعلياً، من أجل تحقيق بعض التقدم، نحن بحاجة إلى ركراكي في حياتنا!
حاجتنا لشخص طموح يثير حماسنا، يدفع بنا إلى الأمام، يقنعنا بأن التغيير ممكن وبأن الأحلام الكبيرة مشروعة، ما دمنا نكافح لتحقيقها، يغذي ثقتنا بأنفسنا وبالآخرين، يساعدنا على تجاوز انكساراتنا وعقدنا، يصدنا عن التفكير بتشاؤم أو انهزامية، يجعلنا نؤمن بقدراتنا ونعمل على تحسينها، يشحننا شغفاً، ويخبرنا على الدوام بأننا قادرون ونستطيع…
شخص يحرضنا على السعي المتواصل والإقدام والرغبة في تحصيل المزيد، يعلمنا عدم الاكتفاء بأنصاف الإنجازات أو أشباهها، يملأنا عزيمة وإصرارا، ويجعلنا متعطشين للنجاح دائماً، فيصنع بنا ومعنا واقعاً جديداً لنا، يشيد باجتهادنا ويتفهم إخفاقاتنا، يعترف بمجهوداتنا ويتقاسم معنا مسؤولية تعثرنا…
شخص يفهمنا، يعرف ما يحركنا وما يجعلنا نتوقف، يجيد العزف على أوتارنا الحساسة، يمهر في ترويض الأجزاء المتمردة فينا، يجعلنا نشتعل، ثم يدعمنا لنبقى متوهجين ليس فقط بشكل جميل بل بطريقة فعالة، يوحد صفوفنا داخل المجموعات ويبرز ميزاتنا الشخصية كأفراد…
شخص يحمينا من مثبطي الهمم وينفض عنا السلبية، يغرس في عقولنا أفكاراً تخدمنا، ثم يؤهلنا للاعتناء بها، وجعلها تنمو أكثر، يعلمنا كيف نهرب بعيداً عن سمية الأفكار والأشخاص…
شخص حكيم وملهم، لديه رؤية واضحة، ويملك خطة محكمة، يقودنا وهو ضابط مساره جيداً ومحدد وجهته النهائية، لا يتوارى خلف الظروف ولا الأعذار، يهمس لنا بين الفينة والأخرى بأن النصر يليق بنا، وبأننا نستحق الأفضل، فضلاً عن كونه لا ينفك يذكرنا أنه بإمكاننا أن نذهب بعيداً للغاية، وبأننا في مستوى التطلعات…
حاجتنا لشخص يصفر لنا أثناء اللعبة ويصفق لنا في نهايتها، يعيش معنا تفاصيل معاركنا بصدق فتتلألأ عيناه دمعا أحيانا ويضحك ملء شدقيه أحياناً أخرى… يحتضننا بين الأشواط، ويهتف من أجلنا قبل بدايتها "سيييير، سيييير، سيييير…"، يتحدث عنا بفخر، يدافع عنا، ويتعامل معنا بالنية…
هكذا يبدو وجود الركراكي في حياتنا كوجود ملاك يحمينا، ويجعل الأمر أقرب إلى الخيال من الحقيقة؛ لكن، ولحسن الحظ، الركراكي إنسان فقط، وليس كاملاً ولا مثالياً دون شك، وله أخطاؤه وكبواته حتماً؛ وهذا هو الجميل في الموضوع، لأن تسليط الضوء على أشخاص مثله يثبت أنهم موجودون حقاً ويصنعون التغيير والتأثير في الأرجاء، داخل البيوت والمؤسسات والمنظمات و المجموعات، ولو في الظل بعيداً عن الأنظار.
وهذه فرصة، أوجه من خلالها دعوة إلي وإليكم، لكي نقوم بلفتة بسيطة ونشكر كل ركراكي في حياتنا، من خلال كل شخص كفؤ يتقن عمله ويجعلنا ننتفع به، كل مؤثر حقيقي على الظروف والبيئة والناس، كل من يملك قيما جميلة ومبادئ يسخرها لتخدمه وتخدمنا، كل من يعمل بضمير وبجدية وبتفانٍ من أجل مصلحة عامة، كل من يحفزنا على أن نخرج أفضل ما في جعبتنا ونصبو إلى تحقيق التغيير نحو الأفضل…
وفي حالة ما التفت أحد ولم يجد ركراكياً قربه، فهذه فرصة رائعة أيضاً لكي يحاول أن يصير ركراكياً هو نفسه، سواء تجاه الآخرين أو حتى تجاه نفسه؛ …
ولأننا خُلقنا مختلفين، وقيمة الركراكيين لا تعرف إلا بغيابهم، فلا يمكن أن يصبح الجميع ركراكياً، وهذه أيضاً ليست بالمشكلة… فلا عيب في ألا أكون أنا أو أنت مؤهلين لنصبح ركراكيين؛ العيب، كل العيب، أن يعادي العاجز عن ذلك من استطاع تحقيقه… ألمح لأولئك الذين يحاربون الركراكيين على الدوام، يحاولون قمعهم أو تغيير معتقداتهم غافلين عن أن هؤلاء يملكون مقدرة رهيبة على مواصلة التعامل بنية، ونشر روح "سيييير، سيييير، سيييير…".
فتحية تقدير وامتنان صادقين لكل من نجح في أن يصير ركراكياً، واحترام كبير لكل من يحاول أن يكون كذلك…
(* ملحوظة: "سيييير" هي كلمة باللغة المغربية العامية، معناها: سر، وتفيد ما معناه: انطلق وواصل المسير…)
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.