عاد موضوع الحديث عن معادلة "نحن وهم" إلى المجتمع الفرنسي، أي: نحن أصحاب أرض هذا البلد، وهم من أتى إلى هذا البلد، بحثاً عن حياة أفضل، رغم أن هم، قد عانى أجدادهم وآباؤهم من ويلات النمطية والعنصرية ومن سياسات التهميش وخطاب الكراهية؛ بسبب أن هويتهم تختلف عن أصحاب أرض البلد. هذا الآخر الذي قدّم النفس والنفيس من أجل تطوير اقتصاديات أصحاب البلد ومن أجل أن يعيش أولاده في مجتمع مزدهر تحكمه مبادئ الحرية والمساواة والأخوة.
شعار دولة الجمهورية الفرنسية الذي يراه جلّ المهاجرين في فرنسا ليس شعاراً فارغاً، بل هو فعلاً مبدأ يحمي الفرنسيين من أصول إفريقية ومغاربية خصوصاً، والمهاجرين من أقطاب العالم عموماً.
نحو عنصرية معلنة
تشهد فرنسا منذ أكثر من عقد من الزمن نقاشاً حاداً في الفضاء العام، يغذّيه خطاب اليمين واليمين المتطرف على المستوى السياسي والإعلامي والنخبوي، أي: الخطاب الرافض لفكرة تعدد الثقافات بداخل المجتمع الفرنسي، الذي يراه هذا التيار الفكري المتطرف أنه لا يتماشى مع مبدأ الإدماج l'Assimilation.
فمسألة الهوية الوطنية التي حرّكها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي عام 2007 بحجة تقليص صعود حزب اليمين المتطرف الجبهة الوطنية (FN) آنذاك بزعامة جون ماري لوبان، والد مارين لوبان زعيمة حزب اليمين المتطرف، التجمع الوطني (RN)، كان الرد عكسياً على سياسة تعاطي نيكولا ساركوزي مع حزب اليمين المتطرف، أي بسبب تلك السياسات الفاشلة، أصبح اليوم حزب آل لوبان ومعه حزب إريك زيمور، أول حزب على الساحة، وأصبح خطابه وحتى سلوكه أمراً عادياً (banal) – عندها بات منطق العَنصرة الذي أضحى يوجّه الإعلام الفرنسي والعمل السياسي بفرنسا منذ أحداث العمليات الإرهابية لعام 2015؛ حيث غيّرت هذه الأحداث موضوع المهاجرين، الذي كان موضوعاً عرقياً منذ نهاية حرب الجزائر عام 1962.
ستون سنة مضت ولايزال الجدل قائماً، تعرف فيه سياسة الهجرة بفرنسا تطوراً خطيراً، يوضح تصادمٌ بين مبادئ الجمهورية التي يراها (هم/الآخر) أنها سند يحميهم من مسار عنصرة (نحن).
هذه المعادلة ظهرت من جديد يوم الأحد مساء على مواقع التواصل الاجتماعي بعد الفشل في تسديد الركلات الترجيحية في مباراة نهائي كأس العالم بالدوحة، قطر التي جمعت بين المنتخبين الفرنسي والأرجنتيني، التي انتهت بفوز الأرجنتين بفضل الضربات الترجيحية. تعرَّض لاعبو المنتخب الفرنسي من أصول إفريقية لإساءات عنصرية على مواقع التواصل الاجتماعي، شنها مشجعو فريق الديوك، بعد أن حقق الفريقان التعادل في الوقتين الأصلي والإضافي للمباراة التي جمعت بينهما؛ حيث عرفت أطوار ذلك اللقاء سيناريوهين على الطريقة الشيكسبيرية والهيجكوكية على حد سواء.
منح مدرب المنتخب الفرنسي ديدييه ديشان لكل من كومان وتشوميني فرصة تسديد الركلات على غرار مبابي وكولو مواني اللذين سجّل كلاهما في مرمى الحارس الأرجنتيني. إلا أن فشل كومان وتشوميني وكل اللاعبين من أصول إفريقية تحملوا الخسارة لوحدهم. لكن كومان وتشوميني حسب العدد الهائل على مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في صالونات المنازل هما مَن تسبَّبا في خسارة المنتخب الفرنسي وحرمانه بالتتويج باللقب العالمي الثالث والثاني على التوالي في تاريخ البطولة العالمية لكأس العالم.
حرب المواقع!
شنّت إثر ذلك حملة عنصرية واسعة للاعبي المنتخب الفرنسي ذوي الأصول الإفريقية، على مواقع التواصل الاجتماعي، التي وُجهت إليها التهم بعد ذلك بالانحياز وعدم وقف الخطاب العنصري على مواقعها، علماً أن في تلك المباراة بالضبط كان عشرة لاعبين من أصول إفريقية ببشرتهم السمراء على المستطيل الأخضر، خاضوا منافسة طوال عمر الشوط الثاني والوقت الإضافي للمباراة.
لم تكن المرة الأولى التي يلعب فيها بعض اللاعبين من أصول إفريقية ومغاربية مع المنتخب الفرنسي، مثلاً الأسطورة زين الدين زيدان الذي سجل اسمه على قوس النصر بشارع الشانزليزيه وسطع نجمه على سماء فرنسا من أنتيب إلى كالي عام 1998 بعد تسجيله لهدفين في نهائي مونديال فرنسا أمام منتخب البرازيل وأهدى أول لقب عالمي لفرنسا؛ لكن في عام 2006، عندما نطح المدافع الإيطالي ماركو ماتيرازي وأسقطه على الأرض وتوّج المنتخب الإيطالي بلقب كأس العالم لكرة القدم للمرة الرابعة، تحوّل زين الدين زيدان إلى ذلك الجزائري المهاجر بعدم قابلية الإدماج والمتعطّش للفعل الإجرامي و"الإرهاب".
رغم أن قصة زيدان مع ديسايي وتيرام كانت قصة نجاح سياسة الاندماج L''intégration في النسيج المجتمعي الفرنسي، زين الدين زيدان الذي وُلد في فرنسا ورث عن والديه اللذين ربياه على حب فرنسا ومبادئ الجمهورية: الحرية، والمساواة، والأخوة؛ حيث دفع في تلك اللحظة، أي صيف 1998، إلى الدفع بمجتمع متفتّح على قيم الإنسانية، شارك الإعلام حينها في إرسال الثالوث الجمهوري الجديد للجمهورية الفرنسية: Black, blanc, beur (أسمر، أبيض، عربي)، وكان ذلك بمساعدة الطبقة السياسية، لاسيما اليسارية.
هل ينجح المهاجر العربي والشرقي والإفريقي في فرنسا خارج الكرة؟
على عكس الصورة النمطية للعامل العربي المغاربي والإفريقي في الستينات والسبعينات مع صورة شاب الضواحي منذ مطلع الثمانينات، وما زالت تلك الفئة تصوّر في المنابر الإعلامية والسياسية بكونها منحرفة وغير مؤهلة للعيش في فرنسا، ما منح شرعية لخطاب العنصرية في الإعلام وتصويراً لهذه الشريحة المندمجة بهويتها في المجتمع الفرنسي.
حيث أبناء هؤلاء المهاجرين هم اليوم فعلاً وزراء ورؤساء بلديات ورؤساء دوائر البلديات الكبرى على غرار رشيدة داتي عمدة الدائرة السابعة ببلدية باريس، ومحامون ودكاترة في علوم الطب والرياضيات الفيزياء وحتى في موسيقى الأوبرا، مثل الفنانة المصرية فرح الديباني التي استدعيت لقطر لغناء النشيد الوطني الفرنسي (la Marseillaise) في نهائي مباراة كأس العالم بين المنتخبين الفرنسي والأرجنتيني. ولم تكن هذه المرة الأولى التي تظهر فيها الفنانة المصرية في مناسبة مرتبطة بفرنسا، فقد ظهرت في شهر نيسان/أبريل الماضي في حفل فوز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعهدة ثانية وأدت النشيد الوطني الفرنسي.
بينما كانت الحكومات المتعاقبة تدعو في العلن إلى النموذج الجمهوري الذي يسع كل الاختلافات، كانت في الواقع ترسم سياسات تضع بعض الفئات المهاجرة في وضع خاص. كانت سياسات الهجرة والإدماج والعودة والسكن والصحة والتعليم توحي بأن المهاجرين ليسوا كلهم أصحاب مشاكل، وإنما المهاجرون المغاربة والأفارقة من الساحل الإفريقي فحسب، حيث يُنعتون بالقذارة، والإزعاج وشهوة الجريمة، وعدم قابلية الاندماج في النسيج المجتمعي الفرنسي، فإن أبناءهم الذين ولدوا في فرنسا ورثوا عن آبائهم تلك الوصمة النمطية بمساعدة الطبقة السياسة ووسائل الإعلام، لا سيما اليمينية.
في ظل الخطاب العنصري المتفشي في فرنسا لدى أغلبية واسعة في المجتمع، وهي ظاهرة أصبحت لا تحتاج للبحث عن الجواب، كونها ترسخت في ذهن صاحب أرض هذا البلد، فبالتالي الإهانات والعبارات والرموز العنصرية التي تعرض لها لاعب المنتخب الفرنسي كينغسلي كومان على وسائل التواصل الاجتماعي توّضح بصفة مباشرة علاقة اللاعبين ذوي الأصول العربية والإفريقية مع مشجعي الفرق التي يلعبون لها في أرقى البطولات الأوروبية وهي علاقة استعلائية على الآخر، كما هو بات معروفاً في العلاقة الجدلية بين صاحب أرض البلد والآخر (المهاجر) صاحب البشرة السمراء.
تعميم العنصرية
ما تعرّض له اللاعبان كومان وتشوميني هو نفس السلوك العنصري الذي تعرّض له النائب من أصول إفريقية كارلوس مارتينز بيلونجو على منبر الجمعية العامة (الغرفة السفلى) بالبرلمان الفرنسي عند تطرقه عن موضوع مصير لاجئين عالقين على متن سفينة بمياه البحر الأبيض المتوسط، وفجأة صرخ في وجهه النائب اليميني المتطرف لحزب مارين لوبان (التجمع الوطني) دي فورناس بلفظه العنصري قائلاً: "دعوه يعود إلى إفريقيا"، صرخة غضب مشجعي المنتخب الفرنسي بعودة كومان وتشوميني إلى إفريقيا. ليس سلوك غضب عفوي، بل على عكس ذلك، هو أمر عنصرية المجتمع فهو يكشف عن سلسلة من التفاعلات والسلوكيات داخل المجتمع التي يندرج فيها موضوع العرق والهوية والطبقة الاجتماعية داخل طبقة سياسية منهارة مفلسة، والتي تؤدي في النهاية إلى العنف العنصري.
عندها يصبح تصنيف أبناء المهاجرين حسب مقاييس عرقية وأحياناً دينية، ومن ثم ينشأ جدل موضوع الولاء إلى البلد الأم (بلد الأجداد)، ولكن هذه الخاصية الاجتماعية والنفسية قد لا تكتسي معناها الحقيقي عند المواطن الفرنسي ذي الأصول العربية أو الإفريقية في حال إذا ما استعملت في مجالات مغايرة، وخاصة المجال السياسي، الحزبي الضيق كسلعة انتخابية عند كل استحقاق انتخابي يستعمله تيار اليمين المتطرف في كل مرّة كمحدّد أيديولوجي إلى فرض وجوده، والتأكيد على أنه يتحدث عن مشروع حضاري مصيره الصدام بين صاحب أرض هذا البلد ومن أتى لهذا البلد، ناسياً هذا التيار أن كرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم، تعكس صورة المجتمع الذي تزدهر فيه وقيمه، ومبادئه.
فلقد تخطى تأثيرها حدود الرياضة وأصبح دور تأثير لاعبي هذه الكرة الساحرة بنفس مستوى الفيلسوف أيام مجد حبه للحكمة، لهذا بات اليوم على صاحب أرض البلد أن يتحرر من معادلة الذهنية الضيقة: نحن وهم بكل روح رياضية وحكمة، لأنهم هم في أرض هذا البلد قاعدون في أرض بلدهم الذي منح لهم الحرية والرفاهية والإبداع.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.