قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي، صباح الإثنين الماضي، الشهيدة الطفلة جنى زكارنة، بينما كانت تقف على سطح منزلها في الحارة الشرقية لمدينة جنين بالضفة الغربية.
ورغم إعلان جيش الاحتلال بشكل سريع نسبياً، مساء اليوم نفسه، أنه قتل الطفلة بالخطأ وأثناء اشتباك مع مقاومين إلا أن الشهادات والوقائع مجتمعة تثبت عكس ذلك، علماً أن الجريمة المكتملة الأركان بدت شبيهة بتلك التي اقترفها جيش الاحتلال بحق الشهيدة الإعلامية شيرين أبو عاقلة في مايو/أيار الماضي.
القصة باختصار وتركيز، أن جيش الاحتلال اقتحم مدينة جنين ومخيمها صباح الإثنين الباكر، كما يفعل دائماً، وحاول اعتقال مقاومين وناشطين، بينما تصدى له الأهالي بالوسائل والإمكانيات المتاحة لتصعيب الأمر عليه وحماية المستهدفين، وفي الحارة الشرقية من المدينة ومقابل أحد البيوت التي تم فيها اعتقال أحد المطلوبين فعلاً، اعتلت جنى سطح منزلها للبحث عن قطتها الصغيرة وإيوائها من البرد والخطر، وقيل أيضاً إنها سعت إلى استخدام تلفونها الشخصي لتوثيق الاقتحام، فتم استهدافها من قبل قناص محترف بجيش الاحتلال مع كاتم للصوت، وهو سلاح جديد تستخدمه إسرائيل في الفترة الأخيرة لمباغتة المقاومين والمواطنين وحتى إخفاء الجرائم والتعتيم عليها.
وكما العادة وبعد تلكؤ ومماطلة ومع اتهامات الأسرة والسلطة والفصائل ونتائج تشريح جثة الشهيدة التي أكدت استشهادها برصاص يستخدمه الاحتلال، أقر هذا الأخير وبعد ساعات بمسؤوليته عن الجريمة غير المتعمدة، مدعياً أنها وقعت بالخطأ أثناء الاشتباكات مع المقاومين، وهذا غير صحيح بالطبع.
فقد أظهرت التحقيقات الفلسطينية أن الشهيدة جنى استُهدفت بأربع رصاصات ولم تكن في نطاق ولا اتجاه الاشتباكات ومرمى النيران، خاصة مع نجاح جيش الاحتلال قبل ذلك في اعتقال الشخص المطلوب بالمبنى في الشارع المقابل.
هذا يقودنا للاستنتاج المباشر أنها قتلت عمداً. ومبدئياً هذا طبع الاحتلال غير الشرعي، حيث كل تجلياته وأفعاله هي بالضرورة إجرامية، وفى المقابل حق المقاومة مكفول للشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة، كما واجب حمايته أيضاً من قبل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي.
وعليه فقد تم إعدام جنى عن عمد. في برهان جديد على استهتار إسرائيل بحياة الفلسطينيين والمضي في جرائم القتل المتواصلة لإخضاعهم وقتل روح وصمود المقاومة لديهم، لشعورها بإمكانية الإفلات من العقاب، خاصة مع مبادرة الاحتلال إلى التحقيق مع نفسه للتغطية على جرائمه المتعمدة والمنهجية بحق الفلسطينيين.
إلى ذلك نحن أمام دليل صارخ على اليد الرخوة على الزناد من قبل الجيش والمستوطنين، علماً أننا نتحدث عن 220 شهيداً تقريباً منذ بداية هذا العام الجاري بمن فيهم الشيوخ والنساء والأطفال وجلّهم بالطبع من المدنيين العزّل.
ورغم ذلك يطالب المتطرف إيتمار بن غفير، وزير الأمن الوطني الجديد، بمزيد من التسهيلات والمرونة في تعليمات إطلاق النار للجيش والشرطة ضد الفلسطينيين، لتشمل حتى من يلقون الحجارة، في تعبير عن الواقع المتطرف والإجرامي الذي وصلت إليه الدولة العبرية.
للمفارقة أيضاً فقد تم إعدام جنى بالتزامن مع زيارة فيرجينيا غامبا، مقررة الأمم المتحدة لتوثيق الانتهاكات ضد الأطفال إلى فلسطين المحتلة، ورغم محاولة إسرائيل التنصل من المسؤولية عن استهداف الأطفال، إلا أن المقرّرة الأممية تلقت ملفات وتقارير وشهادات موثقة عن قتل إسرائيل مئات الفلسطينيين هذا العام بشكل متعمد بينهم 52 طفلاً.
الشهيدة الطفلة حاولت توثيق الحدث أو حتى رأت ما يجري بالعين المجرّدة كشاهدة عيان لنقل الحقيقة للأسرة والأهل والجيران، وهذا ما لا يريده جيش الاحتلال تحديداً فيما يتعلق بفضح جرائمه للخارج عبر توثيق لا يمكن إنكاره أو التنصل منه.
ومن هذه الزاوية، تبدو جريمة اغتيال الطفلة جنى شبيهة بجريمة اغتيال الشهيدة الإعلامية شيرين أبو عاقلة، مراسلة قناة الجزيرة، قبل سبعة أشهر تقريباً، حيث الاستهداف الممنهج واستسهال قتل الفلسطينيين، والعمل على منعهم من نقل حقيقة الاحتلال إلى الخارج، خاصة في السياق الإعلامي، إضافة إلى الشعور بالإفلات من العقاب والمحاسبة.
ورغم ذلك وبشكل عام، يؤكد المشهد تآكل صورة إسرائيل كدولة تستطيع أن تفعل ما يحلو لها، في ظل التغطية الإعلامية اللافتة، بما في ذلك وسائل ومنابر شهيرة ومرموقة لجريمة إعدام الشهيدة جنى، كما حصل مع الشهيدة شيرين.
ورغم الموقف الدولي الرسمي وتحديداً الأمريكي الملتبس، إلا أن الجزيرة توجهت بملف اغتيال شيرين إلى المحكمة الجنائية الدولية، في خطوة لا يمكن لواشنطن ولا للدولة العبرية وحلفائها إيقافها.
في السياق الأمريكي، بدت لافتة كذلك زيارة وفد من مكتب الشؤون الفلسطينية المستحدث التابع لوزارة الخارجية إلى أسرة الشهيدة جني في جنين، مع مطالبة بتحقيق في الجريمة، غير أن البيان الصادر عن المكتب جاء ضبابياً وعاماً وساوى حتى بين الجاني والضحية.
لا شك أننا أمام عمل أمريكي دعائي دون ضغط جدي على إسرائيل، خاصة مع استمرار الدفاع عنها في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية ذات الصلة، بما في ذلك السعي أخيراً لمنع إضافة شركات أجنبية عاملة بالمستوطنات غير الشرعية، وفق القانون الدولي إلى القائمة السوداء، كما الضغط على السلطة الفلسطينية لعدم الذهاب إلى المحكمة الجنائية الدولية أو العمل لتحريك الملفات والقضايا العالقة أمامها.
هذا يعنى ببساطة أنه لا يمكن الاعتماد جدياً على واشنطن، تحديداً إثر تنصل إدارة جو بايدن من تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي إف بي آي في جريمة اغتيال الشهيدة شيرين أبو عاقلة، ورفض تقديم الحماية والتغطية السياسية له أو الضغط على إسرائيل للتعاون والتجاوب معه.
في الأخير باختصار وتركيز، ثمة خلاصات ودلالات مهمة من جريمة إعدام الاحتلال الشهيدة جنى زكارنة، حيث أهمية الإعلام لفضح الجريمة مكتملة الأركان، أما رسمياً فلا شك أن قيادة السلطة برام الله مطالبة بملاحقة إسرائيل على استهداف المدنيين العزل وتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك محاسبة القتلة المجرمين أمام المحاكم ذات الصلة -الجنائية والعدل الدولية- وحتى في الدول التي تطبق قانون الولاية الدولية في محاكمها.
بناء عليه ولخوض المعركة الناجحة والظافرة على كل المستويات السياسية والإعلامية والقانونية، يحتاج الأمر بالطبع إلى قيادة حازمة ومصممة تمتلك رؤية واستراتيجية، وتستفيد من الطاقات الهائلة للشعب الفلسطيني وأشقائه وداعميه، غير أن غيابها لا يعني التوقف أو اليأس، بل ضرورة قيام كل منّا بما في استطاعته لفضح إسرائيل والكشف عن وجهها البشع، والدعوة لعزلها ومقاطعتها ومحاسبتها على جرائمها، علماً أن حكومة نتنياهو – بن غفير – سموتريتش المتطرفة القادمة ستوفر ذخيرة إضافية لهذه المعركة التي يجب أن نستعد لها كما ينبغي وعلى كل المستويات أيضاً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.