منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية في مطلع العام الحالي، وتدفق العقوبات الغربية على روسيا، والأزمة الاقتصادية التي حلت بها نتيجة لذلك، بدأت موجة من الهجرة الجماعية للروس إلى خارج البلاد هرباً من الحرب ومن تبعاتها.
ومع إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استدعاء 300 ألف جندي احتياطي من ذوي الخبرة العسكرية للقتال في أوكرانيا، بدأ النزوح الجماعي، حيث غادر نحو 700 ألف روسي البلاد خلال أسبوعين من إعلان التعبئة في 21 سبتمبر/أيلول الماضي، رغم ارتفاع أسعار الرحلات الجوية بأكثر من 20 ضعفاً. وفق تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأمريكي.
ولنتعرف على أهمية الهجرة الجماعية للروس، وتأثيرها على روسيا وعلى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، ولماذا تتسابق عليهم الدول، وكيف شكلت الهجرة الجماعية للروس في السابق المحرك الرئيسي للاقتصاد الإسرائيلي؟
هجرة الأدمغة الروسية
كان قطاع تكنولوجيا المعلومات في روسيا أكبر المتأثرين من واقع الهجرة الجماعية التي ازدادت منذ مطلع الحرب الروسية الأوكرانية، وخُلق ما يُعرف بـ"هجرة الأدمغة"، حيث شهدت روسيا نزوحاً ملحوظاً للخبراء والعلماء والتقنيين.
وغادر البلاد حوالي 70 ألف شخص ممن يعملون في المجال التقني وتكنولوجيا المعلومات في الشهر الأول للحرب، ويُعتقد أن 100 ألف آخرين غادروا في الشهور التالية، ما يمثل 10% من العلماء والخبراء الروس. ومن المتوقع أن يزداد العدد في المستقبل، مع استمرار روسيا في شن الحرب والقيام بالتعبئة العسكرية، وفقاً للجمعية الروسية للاتصالات الإلكترونية.
ومع تفاقم ظاهرة "هجرة الأدمغة" من البلاد وبلوغها مستويات خطيرة، دقت روسيا ناقوس الخطر، وأمام هذه التحديات، اتخذت حزمة من التدابير للحد من "هجرة الأدمغة" في قطاع تكنولوجيا المعلومات. وأعلنت الحكومة في مارس/آذار الماضي عن إجراءات عاجلة لدعم موظفي شركات تكنولوجيا المعلومات، من بينها الإعفاء من الخدمة العسكرية، ومنح مالية مع منح رهن عقاري تفضيلي، وإعفاء شركات تكنولوجيا المعلومات الروسية من عمليات التفتيش ودفع ضريبة الدخل لمدة 3 سنوات.
لماذا تهاجر العقول الروسية؟
وتُعرف هجرة العقول بأنها نزوح المهنيين ذوي المهارات العلمية إلى الدول المتقدمة بحثاً عن أوضاع معيشية أفضل وأجور أعلى، أو العمل في شركات أجنبية والوصول إلى التقنيات المتقدمة التي تساعدهم على التطور، والبحث عن نظام سياسي واجتماعي مستقر. ووفق استطلاع رأي فإن 85% من العلماء الروس يعارضون الحرب الروسية في أوكرانيا.
ويهاجر التقنيون والعلماء الروس إلى الكثير من البلدان التي لا يحتاج دخولها إلى تأشيرة، مثل بولندا وتركيا وأوروبا، وبعض دول الخليج العربي ومصر، كما تتنافس الولايات المتحدة وبريطانيا على استقطابهم.
ويحاولون نقل أفضل المتخصصين الروس ذوي الخبرة في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا الفضاء والأمن السيبراني والهندسة النووية والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الفضاء وغيرها من المجالات العلمية المتخصصة إلى بلدانهم، وهي نفس الاستراتيجية التي استخدمتها الولايات المتحدة في العهد السوفييتي. وتعيد استخدامها مرة ثانية من أجل إضعاف روسيا والاستفادة القصوى من تلك العقول.
خسائر باهظة تدفع ثمنها روسيا
ويرى العلماء والأكاديميون الروس أن الدولة لن تكون قادرة على التطور والنمو من دون الابتكار والإبداع المتعلق برأس المال البشري، كما أن تلك الهجرة الداخلية تضر باقتصاد الدولة، وتخلق تحديات ديموغرافية، وقد تؤدي إلى نقص كبير في القوى العاملة الماهرة التي تعتمد عليها الدولة بشكل أساسي في مختلف القطاعات.
وبحسب نيكولاي دولجوشكين السكرتير العلمي للأكاديمية الروسية للعلوم، فإن كل عالم روسي يغادر البلاد يكلف الاقتصاد الروسي ما متوسطه 300-400 ألف دولار. ولا يشمل هذا المبلغ الربح المفقود بسبب رحيل أصحاب الاكتشافات والابتكارات التي يحتمل أن تكون مربحة. وبشكل عام، فإن خسارة الاقتصاد الروسي بسبب هجرة رأس المال البشري تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات سنوياً. ومن المتوقع أن هجرة العقول قد تصبح المشكلة الأكبر التي تواجه روسيا على المدى الطويل.
ووصل إجمالي قيمة قطاع تكنولوجيا المعلومات الروسية نحو 24.8 مليار دولار في عام 2019، وتضم 1.3 مليون تقني يعملون في هذا القطاع الضخم التي توليه روسيا أهمية كبيرة، حيث تعتبر العاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات من الأصول الاستراتيجية التي لا يجب الاقتراب منها أو إضرارها.
الهجرة الأولى للأدمغة الروسية
وبدأت ظاهرة هجرة العقول الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في بداية تسعينيات القرن الماضي، بسبب مرحلة الانتقال من الشيوعية إلى الاقتصاد الحر، والإجراءات التقشفية الصادمة التي اتخذتها السلطات الروسية حينها، ما أدى إلى هجرة جماعية للعلماء والمثقفين الروس، وكانت روسيا قبل ذلك رائدة في مجال البحث العلمي، وتتميز بامتلاكها عدداً ضخماً من العلماء غير موجود في أي دولة في العالم، وانخفض عدد العلماء حينها بنسبة 65%. وكانت إسرائيل أكبر المستفيدين من هذه الهجرة واستطاعت بفضلها تحقيق ازدهار اقتصادي غير مسبوق. ولكن كيف حدث ذلك؟
لسوء الحظ تصادفت مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ودخول السلطات الروسية الجديدة في حزمة من الإجراءات الاقتصادية العنيفة وإتباع الممارسات القمعية، مع "اتفاقية أوسلو" الشهيرة التي عقدتها إسرائيل بسبب أنها لم تعد قادرة على الاستمرار في مرحلة النزاع الدائم الذي يعطلها عن الدخول في اقتصاد السوق ويخسرها أرباحاً ضخمة.
وتقول الكاتبة نعومي كلاين في كتابها الشهير "عقيدة الصدمة" إنه سادت قناعة لدى مجتمع الأعمال الإسرائيلي أن الاحتلال الدموي لغزة والضفة الغربية يهدد مستقبل إسرائيل الاقتصادي، وأن هذه الحرب تؤخرهم وتضيع عليهم فرصة اللحاق بفورة الأسواق الناشئة، وبالتالي أرادوا أن يكونوا جزءاً من عالم الأرباح تلك. وأن يكون لهم وجود في الثورة المعلوماتية التي تحدث.
وبالتالي كان يجب التواصل إلى اتفاق للسلام مع الفلسطينيين، حتى لو لم يكن ذلك الاتفاق أكثر من صيغة جديدة ومختلفة لدولة الاحتلال التي أرادت إخبار العالم أنها لا تخوض حرباً، حتى ترفع الدول المتقدمة مقاطعتها لإسرائيل وتصبح إسرائيل في موقع اقتصادي ممتاز ومركز التبادل الحر في الشرق الأوسط. وعبّر "شيمون بيريز" وزير الخارجية الإسرائيلي آنذاك عن واقع تلك السياسات الجديدة، عندما قال للصحفيين الإسرائيليين: "نحن لا نبحث عن سلام رايات، بل نهتم بسلام الأسواق".
وبالعودة إلى النقاش حول "هجرة الأدمغة الروسية" فقد كان لهم الدور الرئيسي في إنجاح استراتيجية الاحتلال الجديدة نحو دخول الأسواق الحرة واللحاق بالثورة المعلوماتية، حيث هاجر في تلك الفترة أكثر من مليون يهودي من الاتحاد السوفييتي المنهار إلى إسرائيل، وشكل هؤلاء المهاجرون أكثر من 18% من إجمالي سكان إسرائيل. وهاجر بعد ذلك 600 ألف شخص إضافي من الدول المنشقة حديثاً من الاتحاد السوفييتي.
وتورد نعومي كلاين في كتابها: "كان عدد كبير من اليهود السوفييت الذين توجهوا إلى إسرائيل يسعون إلى العيش في دولة يهودية، ولكن هناك نسبة كبيرة من الروس الذين ذهبوا إلى هناك لم يكونوا صهيونيين مثاليين، وإيمان معظمهم باليهودية كان ضعيفاً، لكنهم ذهبوا بسبب تدهور الأوضاع داخل روسيا، ومعاناتهم مع اقتصاد الصدمة داخل روسيا".
استخدام المهاجرين الروس في عزل فلسطين
في البداية استغلت إسرائيل هذا العدد الضخم من المهاجرين السوفييت في الاستغناء عن 150 ألفاً من العمال الفلسطينيين الذي كانوا يغادرون منازلهم كل يوم في غزة والضفة الغربية وينتقلون إلى إسرائيل للعمل في الحقول والمصانع وتنظيف الطرق وبنائها، وكان المزارعون والتجار الفلسطينيون يملؤون الشاحنات بالسلع ويذهبون لبيعها في إسرائيل، وكان كل طرف يعتمد على الآخر اقتصادياً.
وقبل قدوم السوفييت لم يكن اقتصاد إسرائيل ليصمد لولا مساهمة الفلسطينيين، ولكن تلك العلاقة المستحيلة انتهت مع قدوم السوفييت، ما ساهم في تفاقم الوضع داخل فلسطين وارتفاع البطالة، والعيش في وضع من الحصار الاقتصادي الذي فرضته إسرائيل حينما منعت السلطات الفلسطينية من إنشاء علاقات تجارية مع الدول العربية، فضلاً عن الحصار الاستيطاني الذي توسع داخل الأراضي الفلسطينية بفضل المهاجرين السوفييت.
وامتلك الاحتلال الإسرائيلي سلطات جديدة مكنته من بدء عصر جديد مع الجانب الفلسطيني، وتأزمت الحياة الاقتصادية للشعب الفلسطيني، بعض التضييق عليهم وإغلاق الحدود، وبدأت تظهر الحواجز ونقاط التفتيش وجدران الفصل العنصري.
وأدى المهاجرون الجدد دوراً لم يولَ اهتماماً كبيراً، وبسهولة تضاعف عدد المستوطنات الإسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية، وشقت الطرق، وتم بناء المساكن الفخمة والفنادق وملاعب الغولف، وبدأت إسرائيل في تسكين تلك المستوطنات بالمهاجرين السوفييت، ومنها مستوطنة "آربيل" التي أصبحت تبدو نموذجاً مصغراً عن موسكو، حتى إن الإشارات على الطرق كتبت باللغة الروسية والعبرية معاً، حيث كان هؤلاء المهاجرون لا يتقنون العبرية. وصرح عدد كبير من الروس بعد ذلك أنهم خطوا هذه الخطوة من دون أن يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.
العقول الروسية كوقود للثورة التكنولوجية في إسرائيل
ومع توقيع اتفاقية "أوسلو" وقدوم خيرة العقول السوفييتية في العهد البائد، دخلت الشركات الإسرائيلية غمار الاقتصاد العالمي بشغف، ولاسيما شركات التكنولوجيا عالية التقنية، والمتخصصة في الاتصالات وتقنيات الإنترنت الآخذة في الازدهار.
وأصبحت "تل أبيب" وادي السيليكون الخاص بالشرق المتوسط، وفي ذروة ثورة الإنترنت حينها في منتصف التسعينيات ومطلع الألفية أصبح 15% من إجمالي الناتج المحلي ونصف الصادرات الخارجية لإسرائيل تأتي من قطاع التكنولوجيا عالية التقنية. ومنذ ذلك الوقت أصبح اقتصاد إسرائيل أكثر اقتصاد معتمد على التكنولوجيا في العالم، حتى إنها ضاهت الولايات المتحدة في ذلك المجال بمرتين. بحسب مجلة الأعمال الأمريكية "بيزنس ويك".
وكان القادمون الجدد الذين لم يكلفوا اقتصاد إسرائيل دولاراً واحداً هم السبب الرئيسي في تلك الفورة، وكان بعضهم أكثر احترافاً من العلماء المتخرجين من معاهد إسرائيل الكبرى خلال السنين الثمانين من عمر وجودها، لأن هؤلاء أنفسهم هم من حافظوا في السابق على ريادة الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، واتفق الخبراء الاقتصاديون داخل إسرائيل، أنهم هم المحرك الرئيسي لصناعة إسرائيل التكنولوجية.
وبعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول وتفجير البرجين، باتت الولايات المتحدة والدول كلها حول العالم مهووسة بكل ما يمكنه محاربة الإرهاب، في الوقت التي تمكنت فيه إسرائيل من توجيه قطاع صناعة التكنولوجيا وتحويله، لينتقل من المعلومات والاتصالات إلى المراقبة والأمن، وأصبحت دولة الاحتلال الصهيوني حاضنة لهذه النوعية من التقنيات التي تتكون من أنظمة شبكات وأجهزة مراقبة، وازداد الطلب على هذه المنتجات في الأعوام التي تلت أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
وتقول الكاتبة الكندية "نعومي كلاين" في تناولها لتلك التجربة: "تمكنت إسرائيل من تحقيق انتعاش بارز ونمو اقتصادي ناتج عن فورة الأمن القومي ومحاربة الإرهاب، وبحلول عام 2004 بدا البلد كأن معجزة قد حولته، إذ بات أداؤه أفضل من أي بلد غربي، ويعود الجزء الأكبر من هذا النمو إلى موقف إسرائيل الذكي، حيث جعلت نفسها مركزاً تجارياً كبيراً لتكنولوجيات الأمن القومي، وكان التوقيت ممتازاً في ظل هوس العالم بتلك التقنيات. حتى أصبحت إسرائيل كما قالت مجلة "فوربس"، "البلد الذي يجب قصده من أجل تكنولوجيا محاربة الإرهاب".
وبفضل فورة التكنولوجيا التي قادتها الأدمغة الروسية المهاجرة لإسرائيل في بداية التسعينيات، تمكنت إسرائيل من زيادة صادراتها من تقنيات محاربة الإرهاب إلى 3.4 مليار دولار في عام 2006، ما جعلها البلد الرابع على العالم في تصدير الأسلحة، ويشكل قطاع التكنولوجيا في الوقت الحالي 60% من صادرات إسرائيل، وبلغت قيمته نحو 44.4 مليار دولار في عام 2021.
وبعد تأمل تلك التجربة، هناك تساؤلات عن التداعيات التي يمكن أن تلحق بروسيا جراء هجرة عقولها، وهل يتكرر الأمر وتستغلهم الدول على غرار ما فعلته إسرائيل، وتُشكل الهجرة الجماعية الثانية للعلماء والمتخصصين والباحثين فرصة للدول التي تطمح في تحقيق تفوق في مجال التقنيات وصناعة التكنولوجيا وكافة المجالات الأخرى التي تُميز الأدمغة الروسية؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.