كان يقضي أياماً هادئة في البرتغال ويتعافى تدريجياً من مرض السرطان، عندما تلقّى العجوز الهولندي لويس فان غال، في أواخر شهر يوليو/تموز من السنة الماضية، اتصالاً من اتحاد الكرة لبلده، يطلب منه إمكانية العودة من التقاعد لإنجاز مهمته الأخيرة في حياته الرياضية.
لم يتردد فان غال في تلبية نداء الوطن، فحمل حقائبه وعاد رفقة زوجته إلى الأراضي المنخفضة، للتوقيع على عقده الجديد والأخير مع الاتحاد الهولندي لكرة القدم، للإشراف على الإدارة الفنية لمنتخبه الوطني الأول، خلفاً لمواطنه فرانك دي بور، الذي كان قد غادر المنتخب، في شهر يونيو/حزيران 2021، بعد إقصاء "الفريق البرتقالي" في الدور ثمن النهائي لبطولة أمم أوروبا.
وقّع فان غال العقد الجديد، يوم 4 أغسطس/آب 2021، وهو يمتد لسنة ونصف السنة فقط، أي إلى نهاية مونديال قطر لكرة القدم 2022، ويتضمن هدفاً واحداً فقط، وهو تأهّل منتخب هولندا إلى الدورة النهائية للمسابقة العالمية ذاتها.
قبل أن يتسلم فان غال رئاسة الجهاز الفني لمنتخب هولندا، كان الفريق قد أجرى 3 مباريات في التصفيات الأوروبية لكأس العالم لكرة القدم 2022، انهزم في الأولى أمام المنتخب التركي ( 1-4)، وفاز في الثانية على منتخب ليتونيا (2-0)، وفي الثالثة على منتخب جبل طارق (7-0).
وبعد مجيء فان غال، حقق المنتخب الهولندي 5 انتصارات وتعادلين، دون أن يتلقى أية هزيمة، مُنهياً التصفيات في صدارة المجموعة السابعة برصيد 23 نقطة، وبفارق نقطتين عن منتخب تركيا الوصيف، ليظفر بذلك ببطاقة التأهل إلى الدورة النهائية لمونديال قطر.
نجح فان غال إذاً وهو في السبعين من عمره في المهمة الأساسية التي عاد من أجلها إلى مجال التدريب، والمتمثلة في قيادة منتخب بلاده إلى نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، وهي المهمة التي باشرها، في أغسطس/آب 2021، في وقت كان يعاني فيه من سرطان البروستاتا، حيث كان يتداوى وقتها بالعلاج الإشعاعي، دون أن يخبر بذلك لاعبي فريقه، حتى لا يؤثر سلباً على معنوياتهم، وبالتالي على أدائهم فوق الميدان.
وذلك قبل أن يكشف عن معاناته مع المرض الخبيث، في شهر أبريل/نيسان الماضي، بعد تأكده من شفائه منه بشكلٍ نهائيٍّ.
إعلانه عن معاناته من السرطان شكَّل صدمة للجماهير الرياضية
جاء إعلان فان غال عن مرضه في مقابلة مع قناة تلفزيونية هولندية، نقلتها العديد من وسائل الإعلام العالمية، وقال فيها إنه تلقى 25 جلسة علاج إشعاعي لنوع عدواني من سرطان البروستاتا.
وأوضح المدرب السابق لنادي برشلونة الإسباني: "كنت أغادر في الليل للذهاب إلى المستشفى، من دون أن يكتشف اللاعبون الأمر حتى الآن. بينما كنت أفكر أنني بصحة جيدة، لكنني لست كذلك".
وتابع: "لا تخبر الأشخاص الذين تعمل معهم بهذه الأمور، لأنها قد تؤثر على خياراتهم وحسمهم لبعض التفاصيل، لذلك اعتقدت أنهم لا يجب أن يعرفوا".
وقد شكّل ذلك الإعلان صدمة كبيرة للجماهير الرياضية العالمية، فتلقى فان غال العديد من رسائل التعاطف والدعم المعنوي من طرف مختلف لاعبي دول العالم ومسؤولي أندية كرة القدم، ما جعله يدلي بتصريح جديد، بعد أسبوع واحد من الأول، يشكر من خلاله كل من دعمه، ويطمئنهم على صحته، ونجاحه في محاربة المرض الخبيث.
وأكد لوكالة الأنباء الهولندية ANP، يوم 12 أبريل/نيسان 2022: "لقد مر بي كل شيء، خضعت للعلاج الإشعاعي 25 مرة، ثم كنت مضطراً للانتظار 5 إلى 6 أشهر لأرى ما إذا كان العلاج نجح أم لا، وبالفعل نجح".
متعجرف ومغرور أم مدرب واثق من قدراته؟
وقد أظهر كفاح فان غال مع السرطان وتضحيته من أجل المنتخب، وإخفائه المرض عن لاعبيه، الوجه الآخر للمدرب الهولندي المخضرم، الذي كان يُنظر إليه كرجل حديدي، فاقد للعواطف، مُتعجرف ومغرور، خاصة من خلال تصريحاته المثيرة للجدل، كتلك التي أدلى بها عقب عودته لتدريب منتخب هولندا في صيف العام الماضي، حين قال: "جئت لإنقاذ الكرة الهولندية، لأنه لا يوجد في الوقت الحالي مدربون متوفرون، أي مدربون من جودتي". أو ذلك التصريح المفاجئ الذي خرج به أمام مسؤولي نادي أياكس أمستردام الهولندي، عندما تم تعيينه في سنة 1991 مدرباً رئيسياً للفريق الأول: "أهنئكم.. لقد قمتم بالتعاقد مع أفضل مدرب في العالم".
أعاد إحياء أمجاد أياكس.. ولم يعرف المجد مع البرسا والبايرن واليونايتد
ولا نبالغ إذا قلنا إنّ لويس فان غال كان مُحقاً في هذا التصريح الأخير، حيث أبهر العالم خلال فترة إشرافه على تدريب أياكس أمستردام من 1991 إلى 1997، بقيادته النادي للتتويج بلقب الدوري الهولندي في ثلاث مرات متتالية (1994 و1995 و1996)، وكأس هولندا في 1993، وكأس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم في 1992، ولقب دوري أبطال أوروبا لكرة القدم في 1995، وكأس ما بين القارات في السنة ذاتها، إضافة لنهائي دوري أبطال أوروبا في العام 1996، والذي انهزم فيه بصعوبة، وبعد اللجوء لركلات الترجيح.
وقد أعاد لويس فان غال في تلك الفترة إحياء الكرة الهولندية الشاملة، التي تعتمد على الصرامة التكتيكية والتحرك المستمر للاعبين فوق الميدان، وسرعتهم الكبيرة والضغط المستمر بمنطقة الفريق المنافس، كما أظهر أياكس للعالم لاعبين شباباً أصبحوا فيما بعد نجوماً كباراً بأندية أوروبية أخرى، على غرار مارك أوفرماس، باتريك كلويفرت، إدغار ديفيدز، كلارنس سيدورف، والتوأم فرانك ورونالد دي بور.
ولكن إذا كان فان غال قد عرف المجد الكبير رفقة أياكس أمستردام، فإنه لم يحقق نفس نوعية النجاحات مع الأندية غير الهولندية، بحيث اكتفى بلقبين اثنين للدوري الإسباني مع برشلونة، في سنتي 1998 و1999، وتعرض لانتقادات شديدة من الصحافة الكاتالونية، خاصةً في تعامله الصارم مع بعض نجوم الفريق، على غرار البرازيلي ريفالدو.
كما اكتفى بلقب الدوري الألماني وكأس ألمانيا مع بايرن ميونيخ في موسم (2009-2010)، وبلوغ نهائي دوري أبطال أوروبا للموسم ذاته، والذي خسره أمام نادي إنتر ميلان الإيطالي، واكتفى أيضاً بنيل كأس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم لسنة 2016، رفقة نادي مانشستر يونايتد، قبل أن يفسخ النادي الإنجليزي عقده، في مايو/أيار من نفس السنة، ثم يعلن هو شخصياً يوم 11 مارس/آذار 2019 تقاعده واعتزاله التدريب نهائياً.
تجربة أولى فاشلة مع منتخب هولندا قبل التألق في مونديال 2014
أما عن مسيرته مع منتخب هولندا، فقد كانت تجربته الأولى فاشلة، حيث أشرف عليه في سنة 2001 من أجل تأهيله إلى نهائيات مونديال 2002، ولكنه خيّب ظن مسؤولي وجماهير منتخب بلاده، بإقصائه في التصفيات الأوروبية.
وبالمقابل، فقد نجح إلى حد كبير في تجربته الثانية، التي استمرت من 2012 إلى 2014، فقاد المنتخب الهولندي إلى الدور نصف النهائي لمونديال البرازيل، وأُقصي على يد منتخب الأرجنتين بركلات الترجيح.
وفي تجربته الثالثة مع منتخب بلاده، وبعد عودته "الاضطرارية" من التقاعد، فإنّه نجح في التأهل إلى نهائيات مونديال قطر 2022 الحالي، وقد بلغ إلى الآن الدور ربع النهائي، حيث سيواجه المنتخب الأرجنتيني، يوم الجمعة 9 ديسمبر/كانون الأول، في مباراة ثأرية لتلك التي انهزم فيها خلال مونديال 2014، فهل سيأخذ فان غال ثأره من ميسي وزملائه، ويواصل مشواره نحو نيل اللقب العالمي لأول مرة في تاريخ هولندا؟.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.