حدث أقل ما يوصف بأنه سوريالي وأبو كاليبسي، إذ لا تنفع اللغة اليومية في وصفه، ولا حتى أسوأ عبارات النقد والتقييم، حيث قررت أسرة أحد متلقي الخدمة أن تعاقب الأطقم الطبية على ما رأوه سوءاً في مستوى الخدمة، بوصلة ضرب في الطاقم، بالكرابيج والصواعق الكهربائية، على الملأ، ما أسفر عن إصابات فادحة في صفوف الكادر الطبي، دون أي إفادات جادة، إلى الآن، عن إنزال العقوبة الفورية على الفاعلين.
حدث من قعر الجحيم، لا يمكن تخيله في أيّ مجتمع حديث أو يدعي الحداثة، كما لا يمكن تخيله في أيِّ سياق اجتماعي أصلاً، مهما بلغت بدائيته، من فرط افتقاده إلى أساسيات العقل والأخلاق والمصلحة العامة، من ركائز أيِّ اجتماع إنساني، بغض النظر عن وظيفته، فكيف حدث ذلك في مصر 2022؟
قل وداعاً للعقل
معظم المشاهد والممارسات غير العقلانية التي باتت تعم المجتمع المصريَّ خلال الأعوام الأخيرة، من الأعلى إلى الأسفل، من الصراع السياسي إلى سلوكيات المواطنين تجاه بعضهم في الشوارع، من خطاب السلطة وأولوياتها وطرق إدارتها للملفات المحلية إلى الجرائم البشعة التي تضرب المجتمع، يرجع قسطٌ معتبر منها إلى 3 لحظات مترابطة وقعت قبل حوالي عقد.
هذه اللحظات الثلاث، وإن أمكن نسبتها إلى "السياسي" ظاهراً، وفي ذلك بعضٌ من الصواب بلا شك، إلا أنها تحمل في طياتها، وهو الأهم، كثيراً من الدلالات والرمزيات التي أرست وأدت لاحقاً إلى كلِّ هذا العبث والتخلف والانهيار في مبادئ مساحات متقاطعة، هي في الأصل عماد أيِّ مجتمع، فضلاً عن كونه ساعياً إلى، ومتمسِّحاً في صفة الحداثة، هذه المساحات هي: الأخلاقي والقانوني.
وقد تعرض تماسك تلك الركائز، الأخلاقي والقانوني، التي يستند عليها بنيانُ أي مجتمع، إلى التقويض والوأد والبعثرة والدوس لمَّا تماهت شرائح معتبرة وبارزة في ذلك المجتمع مع:
1. تجرُّؤ شخص، كلُّ إمكاناته ومؤهلاته ورصيده أنه خاض مساراً مهنياً عسكرياً من الكلية الحربية إلى الرتب الأعلى، على الإطاحة برئيس انتُخب بأكثرية شعبية، وعلى تقويض مؤسسات نيابية منتخبة شعبياً، وعلى تعطيل الدستور المستفتى عليه شعبياً في مشهد 3 يوليو/تموز 2013.
2. ثم طلب هذا الشخص "تفويضاً" (شيكاً على بياض)، أذعنت له شريحة غير بسيطة، لكي يتولى هذا الرجل بتدابيره دون غيره إدارة شؤون المجتمع، وملفاته الكبرى. تأمل معي رمزية أن تقول الأمة إنها تتخلى طواعية، يوم 26 يوليو/تموز 2013، عن حقوقها في الرقابة على، وإدارة، شؤونها، لأنها قاصرة، فتمنحها إلى شخص، هو الوصي وحده على الجميع.
3. ليطبق ذلك الوصي، مقتضيات تفويض الأمة القاصرة، عملياً، لأول مرة، بعد أن عطَّل دستورها ومؤسساتها النيابية، وبدَّد كفاح أجيال منها من أجل التحديث وسيادة القانون، بقتل خصومه، الذين لطالما شكلوا عاملاً معتبراً في الحفاظ على تماسك المجتمع وتوازنه سياسياً وأخلاقياً واجتماعياً، على الهواء مباشرة، بالمئات، صباح ليلة 14 أغسطس/آب 2013، بعد أن حولهم إلى "بشر مستباحين"، بلغة الاجتماع السياسي، مجردين تماماً من أي حماية قانونية وأخلاقية.
بتلك اللحظات الثلاث المترابطة تحديداً، تمت محاولة إعادة تعريف ذلك المجتمع، باعتباره "مجتمعاً من القاصرين، الجبناء الخانعين، المجردين من القيم الطيبة التي لطالما اتسموا بها، من شهامة وأخلاق ومروءة وتكافل، إلى قطيع من الضباع، الذين قد يصل بهم التردي إلى الرقص على أجساد الضحايا".
وهو الوضع الذي انعكس لاحقاً على كلِّ تفاصيل الحياة، بدءاً من خطاب السلطة الهجومي على المواطنين، الذي يتعمّد ازدراءهم وتوبيخهم وتقريعهم، كمجموعة من القصَّر التي تتكفل السلطة- مشكورة- بتسيير أمورهم، إلى التغوُّل الآمن على حقوقهم في ملفات العمران والضرائب والخدمات، وحتى تفشي الجرائم المشهدية في المجتمع، مثل القتل المسرحي والتمثيل بالجثث.
"الأسياد والعبيد"
الوظيفة الأهم لمنظومة القانون الحديث، الوظيفة الفاصلة التي وجدت من أجلها، هي: حماية التنافس العادل والنزيه على السلطة والموارد والفرص، وكلما اجتهدت منظومة القانون، في مجتمع ما، في تطبيق ذلك المبدأ الذي يتقاطع مع الأخلاقي والسياسي؛ كان هذا المجتمع أقوى وأكثر استقراراً.
بهذا المعنى، وبناءً على معطيات اللحظات الثلاث المذكورة، فقد أصبحت مصر مكاناً غير محكوم بالقانون تقريباً، بلا أي مجازات، ليصبح القانون أداة شكلية في يد فئة، على رأسها الوصي الأكبر على مجتمع القاصرين، لخدمته هو وحاشيته من العسكريين ومن يتحالف معهم، سياسياً واقتصادياً، وبالتالي يصبح كل من تتعارض مصالحه مع تلك الفئة في مهبِّ الريح وبلا ظهر.
وينحصر، بذلك المعنى أيضاً، دور المنظومة القانونية في البلاد، فقط في محاولة الفصل في النزاعات الجنائية والمدنية بين الأطراف الأضعف، والتي غالباً لا تتم أيضاً بكفاءة بسبب البيروقراطية والفساد. أما عن المعارك ضد الفئة الحاكمة، عن طريق المنظومة القانونية فهي غير ممكنة، وقد تُفضي إلى عواقب وخيمة على أصحابها، مهما بلغت عدالتها ووجاهتها.
ونذكر هنا 3 أمثلة أيضاً على هذا الوضع الممزِّق لفكرة المجتمع الأول، حينما تواصل مسؤول ملف الشؤون القانونية في المجلس العسكريِّ مع النائب العام هشام بركات، في وقت مبكر للغاية، بعد 3 يوليو/تموز، لتسوية المتطلبات الشكلية لمقتضيات زيارة فريق النيابة العامة، الذي لم يكن قد تبيّن تلك المعادلة الجديدة بوضوح، للرئيس الأسبق محمد مرسي، في مقر احتجازه بالقاعدة العسكرية البحرية في رأس التين بالإسكندريَّة.
يكشف هذا التسريب الدال والمبكر عن "الوعي" الذي نما إلى المنظومة القانونية المدنية، بدورها الجديد، بعد الانقلاب العسكري، كذراعٍ شكلي لشرعنة الإجراءات الانتقامية من الفئة الصاعدة سُلطوياً في حق خصومها ومناوئيها، بصرف النظر عن الحقيقة والقيم والقسم والشرف والمروءة، لينحصر، أيضاً، دورها الفعلي لاحقاً في فض التشابكات التافهة بين الفئات الأضعف في القضايا المدنية والجنائية، كالنزاع على قطعة أرض وقضايا الطلاق، بعيداً عن الهم الرئيس لمنظومة القانون في المجتمع الحديث من غلٍّ ليد السلطة، إن بطشت، وضمان العدالة والمواطنة لكل الأفراد والفئات.
ثانياً، جزاء من يخرج على تلك الفئة الحاكمة سلطوياً ومن يتجرَّأ على تهديدها من داخلها أو من داخل المنظومة القانونية، كما حدث في تسويغ محاكمات أشخاص مثل سامي عنان وأحمد قنصوة وهشام جنينة، عسكرياً ومدنياً؛ لأنهم باتوا في نظر تلك المنظومة "خارجين عن الحماية ومستحقين للعقاب".
أما المثال الثالث، فهو كما شرح السيسي بنفسه من قبل، كيف ستقوم منظومة ما بعد الـ3 من يوليو/تموز 2013، السياسية والقانونية، بقرار مسبق، دون النظر في أيِّ وقائع أو أوراق أو أدلة، بحماية رجالها (الأسياد) في مقابل نزع الحماية عن خصومها، تماماً كما قرر السيسي، في المقطع الشهير أن الضابط الذي يقتل مواطناً في خضم التعامل مع وقائع احتجاج؛ فإنه لن يقدم حتى إلى المحاكمة.
فالسيِّد المشمول بالحماية القانونية والاجتماعية، بغض النظر عن أخطائه، خاصة لو أمكن احتواؤها بعيداً عن الملأ، هو الضابط الوفي، الذي يتفرع تراتبياً عن القائد الوصي، فهيبة القائد الوصي، كما شرح السيسي سابقاً، من هيبة رجاله الأوفياء، من ضباط ونافذين، والحماية مرفوعة عن كلِّ من يفكر في عدائهم، سياسياً أو اقتصادياً أو طبقياً، وهو ما يعلمه في قرارة نفسه الضابط الذي تجرَّأ وعائلته على جلد الطواقم الطبية في المشافي الحكومية.
لماذا يكره الأسيادُ الأطباء؟
ربما تعد تلك المرة الأولى التي نرى فيها الأسياد يجلدون الأطباء علناً كما حدث في واقعة قويسنا، ولكنها ليست المرة الأولى التي يصطدم فيها الأسياد، بشكل أو بآخر، مع القطاع الطبيِّ، فقد سبق أن طالب السيسي، خلال أزمة كورونا، الكادر الطبي، بالعدول عن أي مطالب فئوية، مهما بلغت وجاهتها ومشروعيَّتها، كما هدد، في نفس تلك الأزمة، قطاعُ الطب العسكري الأطباءَ المدنيين بإمكانية الاستغناء عنهم والاستعانة بـ"الصيادلة" بدلاً منهم، وهو ما كانت رفضته نقابة الأطباء، وقد اتهم رئيس الوزراء مصطفى مدبولي الكادرَ الطبي الحكومي في خضم الجائحة بالتقاعس عن العمل، وعن إنقاذ المواطنين، للتركيز على العمل في "البرايڤت"، بدلاً من الانتظام والحضور في المستشفيات، ما تسبب في أزمة حينها بين الحكومة والأطباء.
وفي الأصل، يعود العداء بين طبقة الأسياد الجديدة وبين الكادر الطبي إلى عدَّة مستويات متراكبة، منها المستوى "النفسي"، فالطبيب في قرارة نفسه يشعر بقيمته الذاتية، وتفرُّده التقني والأخلاقي، وهو ما يثير حفيظة طبقة الأسياد الجدد من العسكريين، التي تريد احتكار الهيبة ونزعها عن غيرهم.
هذا إضافة إلى المستوى "الاجتماعي"، الذي يرى فيه أبناء الأسياد الجدد في كلِّ الفئويين وأصحاب المهارات أعداء للوطن، خاصة إذا طالبوا بتحسين مستوى معيشتهم، لأن الموارد، في المعادلة الجديدة، حكر على الطبقة العليا "هتاكلوا مصر يعني ولا ايه؟"، إلى المستوى "الإداري"، نظراً لتعارُض طريقة العمل بين الفريقين، فالأوَّل- الأسياد- يريدون العمل دون دراسات جدوى، والأطباء، خلافاً لذلك، هم الصفوة العلمية التجريبية التي لا تروق لأدبيَّات الجمهورية الجديدة ورئيسها، الذي قابل "شيخاً" بنص كلامه، ليسأله عن رصيد البلاد من الثروة المعدنية!
ويستثنى من ذلك الوضع القاتم كلُّ طبيب يجمع بين الطبِّ والعسكرية، لأنه تلقائياً عضو في طبقة الأسياد، تماماً مثل عبد العاطي، صاحب اختراع علاج الإيدز الأثير، والأطباء المدنيون المنخرطون في دائرة مصالح الأسياد، وهم معروفون بالاسم.
ومن ثمَّ، فإن واقعة الجلد، ليست إلا استجابة موضوعية طبيعية تماماً لمتوالية إهدار القانون والأخلاق، التي بدأت في الـ3 من يوليو/تموز 2013، والتي أدت إلى تكريس طائفة معينة، من العسكريين ومعاونيهم المنخرطين في دائرة علاقات السلطة، أسياداً محميين من العقاب، خاصة إذا كان الصدام واقعاً مع الأطراف الأضعف، وصولاً إلى صدى التحريض الرسمي المستمر ضد تلك الصنعة، صنعة الطب. ولا أمل في إصلاح الوضع إلا بتغييره جذرياً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.