إذا قررنا أن نحاور متابعي كأس العالم من العرب ومن غيرهم، وسألناهم عن المنتخب الذي تتمنون إقصاءه، فلا شك وأن الجميع تمنى إقصاء المنتخب الألماني.
بعد مباراة تاريخية للساموراي، انتهى المطاف بمنتخب المانشافت في مطار الدوحة الدولي، فقد انتصرت اليابان وأخذت الست نقاط لتمر كمتصدر للمجموعة، وإسبانيا مع هزيمتها حلت ثانياً، بينما الألمان ثالثاً وكوستاريكا تذيلت الترتيب رغم انتصارها في مباراتها السابقة ضد اليابان.
لا أكذب إن قلت إن فرحة إقصاء الألمان عادلت إلى حد ما فرحة صعود المنتخب الوطني المغربي، وليس ذلك لأني أكره الألمان أو منتخبهم، رغم أني لا أحب لاعبي البايرن بسبب تشجيعي للبرسا، إلا أن الأمر مرتبط بالأساس بالطريقة التي تعامل بها الألمان مع ملف مونديال قطر وبالتصريحات الألمانية التي سبقت مباراتهم الأولى، والتي لم يتقبلها المسلمون خاصة كونها لم تحترم دينهم ولا تاريخهم، ويا ليت الألمان اكتفوا بذلك، بل حرصوا قبل صافرة البداية أن يضعوا أيديهم فوق أفواههم تعبيراً عن رفضهم للثقافة الإسلامية العربية لا اعتراضاً على منعهم من التعبير كما يزعمون.
صرح المدير الفني هانز فليك بأنهم لن يحتفلوا بالمونديال بقطر حال فوزهم به، إلا أن الواقع وضع فليك ولاعبيه في الطائرة وأعادهم إلى برلين والخيبة تملأ قلوبهم وقلوب كل الألمان.
إقصاء هو الثاني على التوالي من دوري المجموعات، وللصدفة للمرة الثانية يحدث بأقدام آسيوية، كأنها رسالة خفية للألمان، فالثقافة التقليدية التي يسخر منها العقل الألماني -عقل ورثوه من كانط الذي لم يخرج ولو لمرة واحدة من مدينته كونيغسبرغ- تطيح بهم المرة تلوى الأخرى، والرياضة التي يعتقدون تفوقهم فيها، ترفضهم مجدداً، والكأس التي يحلمون برفعها مجدداً تدير ظهرها.
خرجت الصحف الألمانية لتعبر عن الجرح الذي سببته قذائف النينجا اليابانية، وعَمَّقه المستوى الهزيل للاعبين، فصحيفة بليد اعتبرت الهزيمة نهاية حقبة اعتبرها ألمانية، قائلة:
"يعتبر هذا الخروج المبكر أحد أسوأ الأمسيات في تاريخنا. يجب ألا نبحث بعيداً عن المسؤولين عن هذا السقوط: الاتحاد، المدرب واللاعبون ولا أحد آخر. سيبقى تاريخ الأول من ديسمبر 2022 في الأذهان وسيمثل نهاية حقبة لدولة كانت كبيرة وفخورة في كرة القدم أحرزت كأس العالم 4 مرات وكأس أوروبا 3 مرات. هذا الأمر بات بعيداً".
وعلق الموقع الإلكتروني لقنوات سكاي الرياضية بدوره على الخروج الألماني: "الخروج من البطولة لم يحدث في مباراة كوستاريكا. وإنما بسبب أول مباراة أمام اليابان، وأول من يُلام على ذلك هو المدير الإداري للمنتخب أوليفر بيرهوف ورئيس اتحاد الكرة بيرند نويندورف، لأنهما سمحا بتحول النزاع السياسي حول شارة "وان لوف" إلى موضوع أكبر من الجانب الرياضي في مباراة الافتتاح. أن يجلس اللاعبون قبل المباراة بليلة للتشاور حول موقف سياسي، بدلاً من التركيز المنطقي على المباراة، هو أمر لا يمكن تفهّمه".
بالنسبة لجميع الألمان هذه الهزيمة قاسية ومذلة، ولا يمكن نسيانها أبداً؛ فلم يأتِ الألمان إلا للظفر باللقب أو المنافسة عليه، ولم يتوقعوا الطرد المبكر، ولا أحد في الحقيقة توقع ذلك، ربما تمنى الجميع حدوثه لكنه حدث بأسرع وأجمل مما توقعنا وأردنا، فلماذا يا ترى؟
هذه المشاركة الألمانية يجب أن تمحى من تاريخ كأس العالم، فهي لم تكن رياضية البتة بل دخلت قبل أن تبدأ المنافسة بشهور في متاهات السياسة، والواضح أن السياسيين مارسوا ضغوطاً كبيرة على اللاعبين حتى يخرجوا بتلك التصريحات، ويقوموا بما قاموا به في المونديال، وهذا ما أظنه أفقد المنتخب معناه، فلم يعد المنتخب ممثلاً رياضياً وأضحى ممثلاً سياسياً يسعى لشيطنة الآخر ومساومته، وهذا ما أثر على ذهنية اللاعبين الذين هم بعيدون عن هذه المواضيع والملفات، وليس مطلوباً منهم في أنديتهم تبني مواقف من البلدان المنظمة للبطولات، بل إن تبني مواقف سياسية واضحة يجرّهم للمسألة كما حدث مع مسعود أوزيل، الذي بات مرفوضاً في ألمانيا لصورة، وفي ناديه لموقفه من الصين.
لم يعترض الاتحاد الألماني على المواقف السياسية لأنه هو من دعمها وهذا واضح، ولكنه لم يدرك أن دعمه هذا سيدفع اللاعبون فوق أرضية الملعب ثمنه، ففي الوقت الذي دخلت اليابان بدون أجندة ودون حزازات ومن أجل أن تلعب، استهل اللاعبون الألمان مباراتهم بطريقة تصلح للشوارع لا الملاعب، وحين بقي الياباني مركزاً حتى آخر دقيقة اعتقد الألماني تفوقه، فازداد غروراً على غرور، وانتفخ ريشه؛ ليصدم بهدف تلو الآخر.
لا يمكننا أن نفسر هذه الانتكاسة بغير هذا العامل، فاللاعبون ممتازون والمدرب من بين الأبرز في العالم، والمجموعة ليست بالصعبة؛ فكيف خرجوا مبكراً؟
سيقول القائل إنها لعبة تتحمل كل شيء، نعم هذا صحيح، لكن هذا لا يغنيك عن أداء مشرف كما فعلت السعودية مثلاً وتونس والإكوادور!
إنها الكرة في كل يوم تعطينا درساً جديداً، واليوم هو موعد درس الألمان ودرسهم بعنوان "احترم ثقافة الآخرين"، ومع أنه درس قاسٍ إلا أنه أهم درس في مشوارهم الدراسي فعليه ربما يبنى المستقبل، فلا أعتقد أن الماكينات الألمانية ستعاود الكرة مرة أخرى، ولا بد وأن كل الدول استفادت من الدرس خاصة وأنه أذيع على الهواء مباشرة، وتابعه الملايين حول العالم.
هي ثقافة الشعوب ويجب أن تحترم وليس لك كضيف إلا أن تلتزم بقوانين المضيف لا أن تتبجح عليه وتفرض آراءك، وحتى لو كانت هذه عادة ألمانية، فإننا نحن العرب لا نفعل ذلك، وإنما تؤطر أخلاقيات نقتبسها من ديننا وثقافتنا الضاربة في الزمن.
نحن شعوب تحب التعايش وتنفتح على الحوار مع الكل، لكننا شعوب ترفض مبدأ ليّ الذراع واستعراض العضلات، مع أننا أصحاب المجد وأهله وكيف لا والشجاعة إلينا تنسب والعز فينا تربى والسؤدد يُعرف بنا ونعرف به.
وكما قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
ونحن نقول: "إن ثقافتنا يا ألمان أعيت على الأعداء قبلكم أن تلينا"
مرحبا بكل ضيوف قطر، وكما رحبت بكم قطر سترحب بكم كل البلدان العربية، وكما أبهركم القطريون بحسن الضيافة فإنا سنفعل ونزيد، لكن بشرط أن تحترموا ثقافتنا وديننا، ولا نطالبكم بما هو مستحيل، فما نريد أن نشق عليكم، إنما هو السهل الهين، فغايتنا أن يصبح هذا العالم منزلاً آمناً يعيش فيه الجميع بسلام.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.