كما كان متوقعاً، جاء مونديال قطر 2022 استثنائياً من حيث التنظيم والنتائج الرياضية والمردود الدولي المجتمعي. صحيح أنه ما زال مبكراً تحليل النتائج بشكل أكثر تعقلاً وحكمة، خاصة أننا في منتصف المونديال، إلا أن الدروس التي بدأنا في تعلمها من هذا الحدث الرياضي الكبير بدأت في الظهور، وهذا بعض منها.
لا يهم أن تكون الدولة صغيرة الحجم أو السكان أو حتى الإمكانات، إنما المهم هو أن تكون للدولة رؤية في الصياغة والتنفيذ تعتمد على أبنائها إن وُجد منهم من يستطيع أن توظفهم من خارجها.
أثبتت قطر، الدولة صغيرة المساحة والسكان، أنها دولة كبيرة في الرؤية صياغةً وتنفيذاً كما بدا من تنظيم رائع للمونديال، وهو أمر كبير يشمل بنية تحتية رياضية هائلة وتنظيماً ثقافياً رائعاً وتنظيماً للمرور، وتوفير خدمات الإنترنت فائق السرعة وتنسيق الآلاف من رحلات الطيران، واستضافة وتأمين آلاف السائحين.
كَسَرَ مونديال قطر 2022 هيمنة الثقافة الأوروبية على كأس العالم، ورضخت جماهير الدول الأوروبية للقيود التي وضعتها قطر على ظهور أعلام مجتمع الميم، وحظر شرب الخمور داخل الملاعب.
صحيح أن بعض المنتخبات، وخاصة منتخب ألمانيا، ما زال يندد بهذه القيود، لكنه لم يستطع كسرها، خاصة في ظل التزام الشعب القطري والضيوف العرب بقوانين البلد المنظم، وهو ما فرض قيداً آخر على هذه المنتخبات يجبرها هي الأخرى على احترام ثقافة وعادات وتقاليد الدولة المضيفة.
مونديال قطر 2022 والمشجعون الأوروبيون
الغريب الذي لم يكن متوقعاً هو رد فعل المشجعين الأوروبيين الذين بدأوا في احترام وتقدير الثقافة العربية كما تبدو في كل شيء في قطر، في اللباس والمأكل والمشرب ومظاهر العبادة، حتى أن بعضهم يبث مقاطع مصورة يظهر فيها استمتاعه بجو المونديال في قطر، والاعتراف بأن الثقافة العربية ثقافة أصيلة تقرب الآخر أكثر مما تبعده.
والأغرب من هذا هو رد فعل المواطنين الأوروبيين في بلدانهم، حيث يطالبون لاعبيهم بالتركيز فقط على الكرة واحترام ثقافة وقوانين البلد المنظم.
لا ينفصل الدرس السابق عن درس كروي آخر، يفرض نفسه على الساحة الكروية، متمثلاً في ظهور كل المنتخبات العربية باستثناء المنتخب القطري بشكل ممتاز في المباريات التي لعبتها حتى الآن.
هزيمة الأرجنتين أمام السعودية وهزيمة بلجيكا أمام المغرب وأداء المنتخب التونسي، ربما تكون قد أسهمت جميعها في إقناع الأوروبيين في قطر وغيرها من الدول أن العرب بات لهم وجود كروي قوي كذلك، وهو أمر له قيمة كبيرة في الثقافة الأوروبية.
أحيت النتائج الجيدة للمنتخبات العربية جذوة الوحدة العربية بين الشعوب العربية. فلن ينسى العالم العربي يوم فوز السعودية على الأرجنتين، أحد المرشحين للفوز باللقب، وكم التبريكات للسعوديين وفرحة العرب كعرب لا كسعوديين أو مصريين أو سودانيين أو أردنيين.
هذه المواقف رغم بساطتها وقلة تأثيرها على تقدم أو تأخر الدول العربية، من وجهة نظري، فإنها تؤكد على وحدة الهوية، وهو أمر جد خطير أتمنى أن يستوعبه ولاة الأمر العرب، الذين يغذون النعرات الفردية على حساب الهوية الجامعة.
ولا يُستغرَب في مشهد رياضي له هذه الروح أن تبرز رابطة المشجعين العرب، المُكونة من عدة جنسيات عربية لتشجع أي منتخب عربي في الملعب، بل لترفع أعلام فلسطين خفاقة في كل المباريات، وهي قضية العرب الجامعة كذلك.
ما زال المونديال في قطر ماضياً كما أسلفتُ، وما زالت دروسه تتبدى يوماً بعد يوم، وعلى مستويات عدة "سياسية ومجتمعية وحضارية".
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.