يختلف الكثيرون حول المنشأ الحقيقي للعبة كرة القدم. يعتقد البعض أن اللعبة نشأت في بريطانيا في القرن الـ19، لكن الوثائق التاريخية تؤكد أن كرة القدم، امتدت جذورها لما هو أبعد من ذلك بكثير.
يعتقد المؤرخون أن أول من لعب كرة القدم، كانت القبائل التي قطنت الأماكن الممتدة بين المكسيك وكوستاريكا، إبان حُكم شعب المايا، عرف شعب لعبة كرة القدم، لكن قواعد اللعبة حينها كانت مُختلفة كثيراً. تتلخص قواعد اللعبة وقتها في جملتين، من يفوز يصير من النبلاء، ومن يخسر يموت.
كان أول ما تعلمه أهل المكسيك عن كرة القدم، أنه من يخسر يموت، وبالتالي يحتاج من يمارس اللعبة لبذل الغالي والنفيس حتى ينجو بحياته. فهو لا يلعب كرة القدم، وإنما يلعب " لعبة الموت".
بطل قصتنا، هو أحد هؤلاء الأبطال، الذي عرف كيف ينجو من الموت، وأصبح أنبل النبلاء، وهو حارس المنتخب المكسيكي، غييرمو أوتشوا.
أوتشوا الذي هزم الموت أمام ليفاندوفسكي
انطلق كأس العالم في قطر 2022 منذ أيام، واتجهت أنظار العالم بأثره نحو المجموعة الثالثة، التي تضم الأرجنتين والسعودية والمكسيك وبولندا، انتظر الجميع على أحر من الجمر الظهور الأول في المونديال الأخير لميسي، لكن بطل الليلة كان المنتخب السعودي، الذي حقق مفاجأة مدوية، واستطاع هزيمة المنتخب الأرجنتين بهدفين مقابل هدف واحد.
البطل الآخر لهذه الليلة، كان حارس مرمى المنتخب المكسيكي، غييرمو أوتشوا، الذي تصدى لركلة جزاء حاسمة لمنتخب بلاده أمام منتخب بولندا، ليحقق المنتخب المكسيكي نقطة ثمينة، ربما تساعده على العبور للدور الثاني في البطولة.
وقف أوتشوا في الدقيقة 58 من عمر المباراة، عندما احتُسبت ركلة الجزاء، في مواجهة نجم عالمي بحجم ليفاندوفسكي، وهو مُثقل بتاريخ بلاده، ويحفظ القاعدة جيداً، من يخسر يموت. تصدى أوتشوا للكرة، وحال دون خسارة منتخب بلاده، ودخل التاريخ كأول حارس مكسيكي يتصدى لركلة جزاء منذ عام 1966- دون احتساب ركلات الترجيح-.
لم يتوقف الجمهور المكسيكي بعدها عن الهتاف باسم أوتشوا. يبدو أن غييرمو صار من النبلاء. لكنه لكي يصل إلى هذه اللحظة التاريخية مرَّ بعدة مراحل، دعنا نُلق الضوء عليها.
"مومو" بين مخبز أبيه وبيتر شمايكل
"فرانسيسكو غييرمو أوتشوا ماغانيا". وُلد حارس المرمى المكسيكي في شهر يوليو/تموز 1985 لأم إسبانية تُدعى ناتاليا ماجانا أوروزكو، وأب مكسيكي، يُدعى غييرمو أوتشوا سانشيز. في مدينة غوادالاخارا، عاصمة ولاية خاليسكو، في المكسيك، وهي أسرة متوسطة، تمتلك مخبز يعولها، يتردد عليه أوتشوا أو "مومو"، كما اعتاد أصحابه مناداته، لمساعدة أبيه، ولتوفير ما يُمكنه من شراء مستلزمات لعب كرة القدم، التي عشقها منذ نعومة أظافره.
لم يلعب أوتشوا في عدة مراكز، حتى يتسنى له معرفة أن مركز حراسة المرمى هو المركز الذي سيناسبه، بل اختاره من اليوم الأول، وحتى قبل ذلك، عندما شاهد مقطع لحارس مرمى مانشستر يونايتد الأسطوري بيتر شمايكل، ليقع في غرامه، ويُفتتن بمركز حراسة المرمى، ويُقرر أنه سيكون مركزه إذا ما مارس كرة القدم.
لمح والدا أوتشوا شغفه بكرة القدم منذ البداية، فأرادا تطويع هذا الشغف، واستغلاله لتحقيق طموحات ابنهما، الذي ربما سيكون السلّم الذي ستصعد عليه هذه الأسرة، لتترقى في الهرم الاجتماعي، إذا ما نجح مشواره في كرة القدم، لينضم أوتشوا لمدرسة كرة القدم في نادي Águilas del América.
بداية واعدة
في نادي Águilas del América تعلم أوتشوا أصول حراسة المرمى. في عام 2005، تخرج الشاب أوتشوا من مدرسة كرة القدم التابعة للنادي، ومقرها مكسيكو سيتي. لم يكن هناك ما يعيقه بعد التخرج؛ حيث بدأ على الفور أولى الخطوات في مشواره الكروي مع النادي نفسه.
منذ اللحظات الأولى، كانت المؤشرات تشير إلى أننا أمام حارس واعد، حيث ساعد الفريق في الفوز بالدوري المكسيكي عام 2005، وفي الموسم التالي فاز الفريق بكأس أبطال الكونكاف. لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، فقد حصل أيضاً على وسام Primera División Golden Glove القفاز الذهبي في الدوري المكسيكي.
لمع نجم أوتشوا، الذي أصبح واحداً من أفضل حراس المرمى الشباب في بلاده، ليتم تتويج أدائه ووضع اسمه على قائمة اللاعبين الذين تم اختيارهم لكأس العالم 2006 في ألمانيا، لكنه كان الحارس الثالث في المنتخب.
مونديال 2010.. خيبة أمل
بعد نهائيات كأس العالم 2006، قام المدرب، هوغو سانشيز، بترقية أوتشوا، ليصبح الحارس الثاني في المكسيك، رفقة الحارس الأول حينها، أوزوالدو سانشيز. في سعيه للحصول على المركز الأول، استغل حارس المرمى الشاب كل فرصة لإثبات جدارته.
كانت المؤشرات تدل على أن أوتشوا كان في طريقه الصحيح ليصبح حارس مرمى المنتخب الرئيسي، خاصةً عندما تم اختياره ضمن أفضل اللاعبين في الكأس الذهبية الكونكاف عام 2009.
في مباريات التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2010، لعب أوتشوا في معظم المباريات، بدلاً من أوزوالدو سانشيز ليصبح حارس المرمى الأول للمكسيك. بذل قصارى جهده لمساعدة المكسيك على التأهل لكأس العالم 2010، لكن خيبة أمله كانت عندما تم وضع اسمه بشكل مثير للجدل كحارس مرمى احتياطي للمخضرم أوسكار بيريز.
تعرّض خافيير أغيري، مدرب المنتخب المكسيكي حينها، والذي اتخذ هذا القرار، لانتقادات شديدة لرفضه تبرير هذا القرار، ليقع ضحية له، وتخرج المكسيك من الدور الثاني للبطولة على يد الأرجنتين، وهو ما أدى إلى إقالة خافيير أغيري بعد نهائيات كأس العالم 2010. لكن ذلك لم يزد أوتشوا إلا إصراراً على مواصلة رحلته، والاستعداد لكأس العالم 2014.
مونديال 2014: حينما وُلد أوتشوا من جديد
بعد خيبة الأمل في نهائيات كأس العالم 2010، قرر اوتشوا مواصلة مسيرته في خارج المكسيك. انضم أوتشوا إلى نادي أجاكسيو الفرنسي، وأثناء وجوده هناك، قدم عروض رائعة، حيث تم التصويت عليه مرتين من قبل المشجعين باعتباره أفضل لاعب في النادي.
في كأس العالم 2014، لم يكن هناك حارس مرمى ينافس أوتشوا كخيار أول للمكسيك. واستغل البطولة أحسن استغلال، حيث أعلن عن نفسه أمام العالم كله في تلك البطولة. وأنقذ بلاده بتصديات استثنائية خاصةً ضد كرواتيا، والبرازيل.
بعد كأس العالم 2014، بدأ أوتشوا السعي لبلورة مسيرته. كانت إحدى الطرق التي فكر بها في القيام بذلك هي الحصول على المزيد من الجوائز والأوسمة الفردية. أدى انتقاله إلى ستاندار لييج البلجيكي إلى مساعدة النادي في الفوز بالكأس البلجيكي، وحصوله على أفضل حارس في بلجيكا.
في كأس الكونكاف الذهبية 2015، كان تحقيق المنتخب المكسيكي البطولة، بمثابة تتويج لما سعى له أوتشوا طيلة حياته، حيث كانت تصدياته عاملاً رئيسياً في سعي المكسيك لحسم اللقب. كانت كل تلك المساعي بهدف أن يصل أوتشوا لكأس العالم في روسيا وهو في أتم استعداد.
الرجل الذي يستقيظ كل 4 سنوات
في روسيا 2018، كان متتبعو الكرة على موعد جديد مع ظهور أوتشوا، الذي أصبح من علامات المونديال بالنسبة لهم، وكالعادة كان أوتتشوا على قدر الحدث، حيث قيل حينها إن أوتشوا قدّم أفضل أداء له في حياته.
لم يشفع أداء أوتشوا في أن تذهب المكسيك لأبعد من الدور الثاني في المونديال، حيث ودعت البطولة من دور الـ16 على يد البرازيل، كما هو الحال في مونديالي 2010 و2014.
بعد كأس العالم 2018، حقق أوتشوا العديد من الألقاب. في عام 2019، فاز مرة أخرى رفقة المكسيكي بكأس الكونكاف الذهبية. قبل كأس العالم 2022، أضاف أوتشوا إجمالي 10 كؤوس إلى دولاب بطولاته.
رقصة أخيرة في قطر 2022
في كأس العالم قطر 2022، يلعب أوتشوا للمرة الأخيرة لعبة الموت، مقامراً بحياته، وهو يعلم أن الخطأ قد يمحو كل ما فات، لكنه، وكما كان فرسان حضارة المايا، لا يأبهون بالمخاطر.
سيخوض أوتشوا رفقة منتخب المكسيك، مباراة حاسمة ونارية أمام منتخب الأرجنتين، سيحلم أوتشوا، ألا يموت وهو على حافة الوصول إلى خط النهاية، لكنه سيصطدم بمقامر آخر، يُدعى ليونيل ميسي، يلعب آخر كروته رفقة منتخب بلاده، ربما سيكون أصعب لاعب واجهه أوتشوا في حياته، لأن التاريخ يُخبرنا أن أصعب منافسة هي التي تكون أمام فارس مهزوم. تُرى هل ينجو أوتشوا، أم يستعيد ميسي أمله الأخير في النجاة؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.