قبل المباراة لم يتخيل حتى أكثر المتفائلين فوز المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني في افتتاحية الجولة الأولى من المجموعة الثالثة في كأس العالم فيفا قطر 2022، وهذا ليس تقليلاً من المنتخب السعودي، ولكن حسابات كرة القدم تقول إن الأرجنتين بقيادة ميسي تتفوق بسنين ضوئية على ثاني أقل المنتخبات تصنيفاً في هذه البطولة، من حيث القوة والعناصر.
ولكن لكرة القدم حساباتها التي لا تخطئ، فإن لها أحكامها التي كثيراً ما تخرج عن المألوف، وفوز المنتخب السعودي على المنتخب الأرجنتيني المدجج بالنجوم والمرشح الأقوى للفوز بالبطولة كانت هي إحدى اللحظات التي ضربت بجميع الحسابات عرض الحائط، هدفان لا ينفصلان عن بعضهما سوى بـ5 دقائق، وصمود لما يقارب الخمسين دقيقة، بعدها جعلت الحلم حقيقياً بفوز سيتم تخليده وتذكره لمئات السنين القادمة.
هدف واحد ليس كافياً
على الرغم من تسجيله هدف منتخب بلاده الوحيد من ركلة جزاء مشكوك في صحتها، إلا أن الأرجنتيني ليونيل ميسي عاش ليلة للنسيان وهو يشاهد منتخبه يُهزم بطريقة دراماتيكية أمام المنتخب السعودي، الذي تمكن من تسجيل أولى مفاجآت البطولة بعد أن ظن الجميع أن المنتخب الأمريكي الجنوبي في طريقه لتسجيل فوز عريض بعد التقدم مبكراً.
الأرجنتين كمنظومة على الورق تبدو مخيفة للغاية، خاصة أن المنتخب لديه سجل رائع قبل بداية البطولة، وهو عدم الخسارة في 36 مباراة متتالية، ولكن في مباراته الأولى أمام المنتخب السعودي وضح أن الفريق يبدو مرهقاً للغاية ودفاعه ليس بتلك القوة، وغياب شبه كلي للاعبي الوسط، مع الاعتماد بشكل كبير غير مبرر على الأطراف التي لم تتمكن من التقدم كثيراً.
وبالطبع غياب قسري من النجم الأول ليونيل ميسي الذي اكتفى بالظهور في فترات قليلة، مهدياً كرات بينية تمكن الدفاع السعودي المتقدم من التعامل معها بنجاح وأفسدها بمصيدة التسلل.
هل خذل ميسي المجموعة أم العكس؟
من الملاحظ أن ليونيل ميسي، وهو في منتصف الثلاثينيات من عمره، أصبح متحفظاً للغاية على الصعيد البدني في ملعب المباراة، فقلما نراه يراوغ أكثر من لاعب أو ينطلق بالكرة من منتصف الملعب إلى حدود منطقة الثمانية عشر، وهو الذي كان يفعل هذه الأمور بسهولة ويسر كأنه في حصة تدريبية وأمام أعتى اللاعبين قوة وشراسة وخبرة.
ولكن في الفترة الأخيرة أصبحت هذه الأمور صعبة عليه، أو أنه أصبح يعرف في قرارة نفسه أن مثل هذا المجهود البدني ولى زمنه، لذلك نراه أكثر ميلاً للبقاء في منتصف الملعب خلف المهاجمين، ومسانداً للأجنحة مكتفياً بدور توزيع الكرات والهدايا عوضاً عن القيام بمعظم العمل وحده.
وقد ساعده في هذا الأمر رفقة فريقه الحالي باريس سان جيرمان وجود لاعبين سوبر ستار يمتازون بالسرعة والقدرة على المراوغة، ولكن الأهم هو قدرتهما (ممبابي ونيمار) على استلام الكرة تحت الضغط، وإمكانية التصرف ضد لاعب أمام لاعب، وهو ما افتقده اللاعب رفقة المنتخب الأرجنتيني.
فمع نسخة المنتخب الحالي، والذي على الرغم من جماعيته الرائعة التي أنشأها المدرب، إلا أن التعامل مع مهاجميه بالنسبة للأسطورة أصبح محلك سر، فالمنتخب يحوز على مهاجم سريع بالفعل ومراوغ ولكنه يفتقد للديناميكية والانسجام الكاملين مع طريقة تفكير البرغوث الصغير، والدليل هو نجاح الدفاع السعودي في نصب المصيدة له مع كل تمريرة سحرية من ليونيل ميسي للمهاجم مارتنيز، الذي كان متسرعاً في معظم اللقطات والتمريرات البينية التي تصل إليه.
وحتى في حالة المجادلة بأن اللاعب فاز بكأس كوبا أمريكا، فإن مجريات تلك البطولة كانت للجناح الطائر دي ماريا القدح المعلى فيه، والذي فعل كل شيء تسجيلاً وصناعة وخطورة بعكس اللاعب ميسي الذي كانت له مساهمته ولكن ليس بالقدر الذي ساهم به لاعب يوفنتوس الحالي.
مباراة السعودية نموذجاً
كل من شاهد المباراة التاريخية التي قدمها المنتخب السعودي أمام المنتخب الأرجنتيني، تأكد تماماً أن ميسي ليس هو ميسي زمان، فقد تمكن المدرب السعودي من دراسة خصمه جيداً، وعلى رأسه الأسطورة ليونيل ميسي، بتشديد الرقابة عليه رجلاً لرجل في حالة امتلاكه الكرة، ومراقبته عن كثب بلاعب ولاعبين في حالة عدم امتلاكه للكرة؛ ما أخرج اللاعب بشكل شبه تام من أجواء المباراة، ولم يتمكن من الظهور سوى في لحظات خطيرة تمكن فيها الدفاع من التعامل معه تارة، وتألق الحارس أمامه تارة أخرى.
وقياساً على هذه المباراة فإن وجود اللاعب على أرضية الملعب، وإن كان كافياً لتسبيب القلق للاعبي الخصم، إلا أنه في حالة التعامل معه جيداً ومراقبته مراقبة لصيقة من الممكن جعل المباراة سهلة للغاية، وهو ما نجح فيه المنتخب السعودي بامتياز، حيث تمكن من عزل اللاعب تماماً والحد من خطورته بشكل كبير، وبالتالي الحد من أكثر من نصف قوة المنتخب الأرجنتيني.
وهذا يخبرنا أن المنتخب الأرجنتيني سيكون مواجهاً بمباراتين غاية في الصعوبة أمام المنتخبين البولندي والمكسيكي، في حالة تطبيق الحالة السعودية نفسها من حيث الضغط المباشر على النجم الأرجنتيني في حالة امتلاكه الكرة، والضغط غير المباشر في حالة عدم امتلاكه الكرة، وبالتأكيد ستكون هذه المباراة مرجعاً للكثير من المنتخبات التي ستبتكر الكثير من الخطط للحد من خطورة الأسطورة الأرجنتينية، ومحاولة التفوق على المرشح البارز لنيل البطولة.
لا يزال الأمر ممكناً ولكن بشروط
تاريخ كأس العالم يخبرنا أن الهزيمة في المباراة الأولى ليست مقياساً، خاصة بالنسبة لمنتخبات كبرى في مستوى المنتخب الأرجنتيني، فالمنتخب الإسباني هُزم في مباراته الأولى في مونديال 2010 ولكنه تمكن لاحقاً من تعديل مساره والفوز باللقب في نهاية المطاف، وهو أمر مرجح للمنتخب الأرجنتيني ولكن فقط في حالة قدرة المدرب على التحرر ولو قليلاً من الاعتماد بشكل كبير على ليونيل ميسي، سواء كاسم على أرضية الملعب أو كخطة رئيسية.
فاللاعب الأسطورة ليس كالسابق، فعامل السن واللياقة له نصيب أمام حيوية منتخبات شابة لديها طموحها في كتابة صفحات التاريخ، وبالتالي على المدرب أن يكون شجاعاً، والتعامل مع المباريات على حسب مجرياتها وليس بحسب الأسماء، ومسألة عدم البدء باللاعب يجب أن يكون خياراً مطروحاً بشدة في خططه، فليس عيباً أن يجلس الأسطورة في مقاعد البدلاء منذ البداية، أو أن يبدأ المباراة من مقاعد البدلاء بحسب مجريات اللعب.
فقيمة اللاعب فيما يقدمه في دقائق لعبه وليست وجوده في التشكيلة الأساسية، ولكنه قد يكون خصماً على المنظومة كلها، فمبدأ الكل من أجل الفرد ليس بالضرورة أن يكون سائداً بصورة دائمة، فهنالك خيار آخر وهو الفرد من أجل المجموعة، وهو الخيار الذي يجب أن يبدأ المدرب الأرجنتيني في التفكير به بدءاً من الجولة الثانية تجنباً للذهاب مبكراً إلى الوطن محملين بالحسرة وضياع فرصة العمر للأرجنتين واللاعب في إضافة النجمة الثالثة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.