في بلد عُرف أهله بالتعلق الشديد بالقضية الفلسطينية، شكلت مشاركة سلطته الحاكمة في مشروع أبراهام الداعم للمحتل الصهيوني، والتي تجسدت في الإشهار الفج للعلاقات معه، صدمة بالغة في أوساط الصف المناهض للتطبيع، فهو الذي اشتهرت نخبه وتياراته المتعددة بفعالياتها الحاشدة ومسيراتها المليونية المتضامنة مع فلسطين، حتى فرضت على الجانب الرسمي أن يعتبرها قضية وطنية، رغم علاقاته الوطيدة مع الكيان المعتدي عليها منذ نشأته والذي اضطر إلى إبقائها في الدهاليز السرية؛ مجاراة للمزاج السائد آنذاك. فما الذي حدث حتى طرأ هذا التحول المثير؟ وأين تبخرت تلك الحشود التي كانت تصدح حناجرها بها في شوارع العاصمة وفي الحرم الجامعي وحتى في المدرجات الرياضية؟
لماذا لم تقف حجر عثرة أمام هذا المنعطف التصفوي الخطير؟
لم تكن تلك الصدمة راجعة إلى الموقف الرسمي فحسب، فقد كان يمني البعض نفسه في أن يظل التطبيع معزولاً في أعلى هرم السلطة، ويبقى الشعب بمنأى عن التورط فيه كدول سبقته في هذا المسار، لكن الحاصل هو أن المناهضين له هم من عُزِلوا، وبدلاً من منعه أو من التضييق عليه وتقليص دوائر النفوذ الصهيوني في الدولة وفي المجتمع بالضغط الشعبي، فقد نجح التطبيع، بعيداً عن المكابرة ورفض الإقرار بالواقع، في اختراق النسيج المجتمعي.
ولننظر إلى كثافة الخطوات التطبيعية التي يصعب تتبعها أو إحصاؤها؛ حيث أصبحت الساحة المغربية مستباحة أمام طوفان التطبيع الجارف الذي لا يوقفه شيء، والذي يقابل بالإذعان من طرف عموم المغاربة، ومما يؤسف له أنك تسمع برفض عدد كبير من الرياضيين العرب منازلة الرياضيين الصهاينة وإن كلفهم التضحية بمستقبلهم الرياضي، وليس من بين هؤلاء مغربي واحد، كذلك لم يسجل أي اعتراض من طرف أي من أطر الدولة ومن كفاءاتها بخصوص التعاطي مع الصهاينة في مجالات اشتغالهم، أما الصوت الغالب الرافض للتطبيع فقد أصبح نشازاً في كثير من الدردشات الاجتماعية.
لا نشك في ولاء المغاربة للقضية الفلسطينية، لكن الظروف أحياناً تتواطأ، فتنتج وعياً مشوهاً قد يؤدي إلى تحوير مسار الشعوب لبعض الوقت، فقد اغتنمت السلطة جائحة كورونا وحالة الطوارئ المعلنة آنذاك لتكثيف صدماتها بحق الشعب المغربي ونسفها لحقوقه بالجملة، فالذي حُرِمَ من تأمين مورد رزقه أنّى له أن يلتفت لغير هذا الهم، ثم تبع كل ذلك موجة تكفير سياسي غير مشهودة في السابق، بعد أن رُهِنَ الدفاع عن التطبيع بالدفاع عن مغربية الصحراء، في تقابل مشين لا يستند لأي منطق، حتى أضحى الدفاع عن القضية الفلسطينية يرقى إلى الخيانة الوطنية، ثم أُعيدَ استحضار الاحتلال الإسباني لسبتة ومليلية، وتم تهييج المشاعر الوطنية ضده. وبعد أن انتفت المصلحة من وراء ذلك عُقِدَ الصلح مع الإسبان وطُوِيَ ملف المدينتين السليبتين في رفوف النسيان. وقد استُثمِر من أجل كل هذا جحافل من "المؤثرين الاجتماعيين" الذين مارسوا تضليلاً واسع النطاق جعل الملايين من متابعيهم يتلقون الدعاية المخزنية بتسليم مطلق.
لم يكن فقدان التوازن الذي يعاني منه المغاربة راجعاً فقط إلى العوامل السابقة، ذلك أن الضربة القاصمة التي تعرضت لها القضية الفلسطينية في المغرب كانت ممن يفترض بهم أن يدافعوا عنها، وعلى رأسها الحركات الإسلامية والتنظيمات اليسارية -القومية، فالذي تحمل وزر التوقيع على اتفاق العار هو حزب العدالة والتنمية الذي يعتبر من أنشط المناهضين للتطبيع، ذلك الاتفاق الذي باركته جل الأحزاب والجمعيات التي كان قادتها يتسابقون إلى وقت قريب لتصدر المسيرات المليونية التضامنية مع فلسطين.
أما بخصوص التيارات الناشطة خارج النسق الرسمي، فقد تخاذلت عن مواجهته، وقد عمدت إلى عدم استفزاز السلطة، حيث اختير لأول شكل احتجاجي على تلك الاتفاقية المشؤومة توقيت مسائي من يوم الإثنين، مع إمكانية تنظيمه يوم الأحد صباحاً؛ والرسالة واضحة هي تفادي استقبال حشود من باقي المدن المغربية والاكتفاء بتسجيل الموقف الرافض من طرف نخبة العاصمة المخملية، من باب رفع العتب لا غير، وقد أصبح تنظيم الوقفات المسائية في أيام العمل تقليداً سيئاً، والنتيجة هي الإساءة للقضية الفلسطينية وحرمانها من الزخم وإظهار أنصارها كأقلية منبوذة.
ما يرسخ التعاطي غير الجدي مع مناهضة التطبيع هو عدم اغتنام طفرة أحداث القدس والشيخ جراح في استعادة المبادرة، بعد التعاطف العالمي الاستثنائي مع القضية الفلسطينية، وبعد الفعاليات الحاشدة في عدد من المدن المغربية التي انتهت بالانصياع لحظر السلطة للمسيرة المليونية التي ألغيت من طرف منظميها، الشيء الذي أعادنا إلى المربع الأول ورسخ قدرة المخزن على الضبط ليزداد تطبيعه شراسة وتغولاً وليعود معارضوه إلى الانكفاء والذين لم يحسنوا استغلال زخم الشارع، كما لم يحسنوا استثمار مواقع التواصل الاجتماعي لغلبة الخطاب الذي يتجنب إقلاق النظام، الشيء الذي جعل حملاتهم باردة ومحدودة التأثير.
مشكلة المجتمع المغربي وباقي المجتمعات التي تعاني من الركود أنها تمنح تفويضها لنخب وتيارات محددة ثم تنسحب، فلا تستيقظ حتى تجدهم قد خذلوها ومنهم من يبيعها بأبخس الأثمان، وهذا ما حصل مع من أعطاهم المغاربة ثقتهم وشعبيتهم باسم فلسطين، ثم لما طُلِبَ منهم اتخاذ مواقف تتناسب مع خطورة المرحلة تراجعوا واكتفوا بترقب الأوضاع علها تفرز من يعفيهم من أداء فاتورة النضال.
المجتمع المغربي وإن كان يحتاج وقتاً لتجاوز صدمته واستعادة توازنه، كفيل بتجديد دمائه واستبدال نخبه، لا سيما أن المخزن قد تجاوز التطبيع إلى رهن البلاد كلها للصهاينة، مما حول القضية إلى قضية سيادة وطنية قبل أن تكون قضية نصرة لشعب شقيق.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.