يستهل الكاتب والطبيب النفسي والمناضل الثوري الجزائري ذو الأصول "المارتينيكية"، "فرانز فانون"، كتابه "معذبو الأرض"، بمناقشة العنف الذي تتعرض له الشعوب المستعمرة ومخلفات هذا العنف على الوعي الجماعي للأمم المحتلة.
لطالما كانت علاقة الإنسان القومي بالعنف علاقة معقدة، تحدد معالمها الرواسب العديدة للاستغلال والتهميش الذي تعرضت له الشعوب المستعمرة والخضوع السياسي والاقتصادي الذي لا تزال مجبرة عليه إلى يومنا هذا.
وقد أكد فرانز فانون على أن السلوك المشبع بالعنف والعدوانية، والذي كان سائداً في المجتمعات الواقعة تحت وطأة الاستعمار سببها ذلك الغضب والسخط الذي يعتري المقاوم من الظروف القاسية التي يعيش في كنفها.
لم يكن المقاوم عنيفاً بالفطرة على الرغم مما يحاول المستعمر تلقيننا من مغالطات حيال أسلافنا الذين تحدوا إرادة المستعمر مقابل التحرر من شتى أشكال الاستغلال، بل إنه توصل إلى أن العنف هي اللغة الوحيدة التي يفهمها المستعمر.
ثم إن هذا الأخير لا يحاول من الأساس أن يفسر سلوكه العنيف تجاه الشعوب المكلومة، لا من الناحية الأخلاقية ولا حتى من الناحية المنطقية، إذ إنه لا يرى في المقاومين سوى أرض يستغلها وأجساد يمتهنها ورأسمال يصدره إلى أرضه الأم.
فهو بكل عمل لا أخلاقي أو عنيف يقوم به يكتب تاريخ بلده الأصلي قبل أن يكتب تاريخ الدولة المستعمرة.
في بادئ الأمر، عمد الرجل الأسود والرجل العربي إلى تفريغ غضبهما في بني جلدتهما، ذلك لأنهما راقبا عن كثب العنف الذي شرعه المستعمر الأوروبي لنفسه، بل وفي كثير من الأحيان كانا على الطرف المتلقي لهذا العنف الاضطهادي.
وقد تبنّيا لوقت طويل العنف كآلية مواجهة لشتى أنواع الاستغلال والاضطهاد الذي يتعرضان له. ولكن وكردة فعل طبيعية على ظلم واحتلال شرس لأرضه، أصبح المقاوم متيقناً من كون المقاومة المسلحة واجباً أخلاقياً.
وهنا يصادفنا سؤال يطرح نفسه: كيف توصل شعب مستعمر لا يكاد يملك ما يكفي لمجابهة عدوه لاستنتاج كهذا حيال مشروعية العنف المناهض للاحتلال؟ كيف يؤمنون بأن العنف هو السبيل الوحيد نحو التحرير وهم جياع، عراة ولا حول لهم ولا قوة أمام جبروت المستعمر وأسلحته الفتاكة والمتطورة؟
هنا يقترح "فانون" بنفسه جواباً على سؤاله؛ يتوق المقاوم إلى أن يكون بعيد المنال عن قبضة المستعمر الأوروبي، فتبنيه للمقاومة المسلحة إذاً، حسب فرانز فانون، هو أيضاً مظهر من مظاهر تبنيه للقوة التي كانت حكراً على المستعمر، سواء أكان هذا الأخير جندياً في جيش الدولة المستعمرة أم مستوطناً يتمتع بامتيازات لكونه امتداداً للرؤية الاستعمارية على أرض الإنسان المقاوم، والتي يشير إليها الكاتب في أكثر من مناسبة ببلدة الأهالي أو القرية الزنجية.
فالمقاوم إذاً يعلن وبشكل واضح من خلال حمله للسلاح عن رفضه القاطع لمستعمرة الوضع الراهن التي أقيمت فوق أرضه على حساب حريته وكرامته، وعن استنكاره لما تتعرض له أرضه من سلب للخيرات والموارد الطبيعية.
ما يغفل عنه "فرانز فانون" في هذا السياق، حتى وهو يتساءل عن الأمر الذي قد يدفع المقاوم إلى حمل السلاح رغبة في تحرير وطنه واستعادة إرادة شعبه ولو بالقوة، هو الدور الذي لعبته المؤسسات الدينية ذات المرجعية الإسلامية (خاصة في شمال إفريقيا) في تلقين المقاوم المسلم أهمية نصرة الحق والتصدي للظلم: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه: 111].
وقد كانت الثورة الجزائرية محط اهتمام لعديد من الثوار ورواد الدراسات الماركسية الذين عجزوا عن تفسير كيف أن طبقة الفلاحين سرعان ما أصبحت المكون الرئيسي للثورة، إضافة إلى تلاحم عدد كبير من الجزائريين على اختلاف قناعاتهم السياسية وتصوراتهم المختلفة لمستقبل الوطن بعد الاستقلال، لأجل تحقيق الغاية المشتركة التي يطمح لها كل إنسان حر رافض للاستعمار.
ورغم الصورة النمطية والمغالطات التي روج لها أعداء الثورة الجزائرية وغيرها من حركات التحرير التي امتدت من المغرب حتى المشرق، والتي تزعم أن الأغلبية الساحقة من المقاومين كانوا أميين، فإن أغلب الجزائريين والمغاربة الذين حملوا السلاح دفاعاً عن الوطن كانوا على قدر كبير من العلم في مجالات مختلفة.
بل وإن عدداً من الأئمة والشخصيات الدينية كانت تدعو الشعبين الجزائري والمغربي إلى الكفاح لأجل الحرية، وقد لعبت مؤسسة الأوقاف في الجزائر مثلاً دوراً مهماً في نشر ثقافة المقاومة عن طريق إدماج الخطاب السياسي الثوري في الخطب الدينية ومجالس الذكر وحلقات قراءة القرآن، ولعل سياسة فرنسا المعادية للإسلام اليوم نابعة من معرفة الفرنسيين أن الإسلام كان مصدر وحدة الشعب الجزائري.
ولكن هذا لا يعني أن الشعب الجزائري كان يبعد عن الثورة بمسافة فتوى أو حكم يقر بمشروعية العنف المناهض للاستعمار، إذ إن هناك بديهيات لا تحتاج الكثير من التفكير، ولكن المرجعية الإسلامية التي قامت عليها عدة حركات تحريرية مناهضة للاستعمار هي التي ساهمت في إنجاح العديد من الثورات في شمال إفريقيا وغيرها من الجهات.
إن في مناهضة الاستعمار تحقيقاً لمقاصد الدين، وذلك لأن نشر العدل ورفع الظلم عن المظلومين ونصرتهم جميعاً تعتبر من مقاصد الشريعة. وإذا كان "فرانز فانون" قد عمد إلى الإشارة إلى ثقافة مناهضة الاستعمار التي شهدها في الجزائر على أنها ثقافة "بدائية" للفلاحين، على الرغم من كونها ثقافة متجذرة في الشريعة الإسلامية والنصوص الشرعية، فذلك يرجع إلى ندرة إلمامه بالمكون الديني والروحي للمجتمع الجزائري خاصة وللمجتمعات المسلمة عامة.
ورغم ذلك فإن "فرانز فانون" قد ساهم بشكل كبير في التعريف بالثورة الجزائرية والتي كان أحد مناضليها، وقد ساهمت أعماله في تعميم عدة مفاهيم وإشاعة أفكار قد حوربت لسنوات من طرف أنصار الإمبريالية الغربية والهيمنة الثقافية التي جاءت لتحل محل المستوطنات والمستعمرات، حيث كان يعيش المستعمر على هامش التاريخ، راضياً بالوجود الخجول الذي جاد به عليه الاستعمار.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.