صدّق مجلس النواب المغربي، يوم الجمعة الماضي، على مشروع قانون المالية برسم سنة 2023، بـ175 صوتاً، مقابل معارضة 66 صوتاً، وامتناع نائبين اثنين عن التصويت (حضر عملية التصويت 225 نائباً ونائبة من أصل 390)، مقراً بذلك أول موازنة مالية لحكومة السيد عزيز أخنوش منذ تعيينه رئيساً للحكومة في 11 سبتمبر/أيلول 2021.
حكومة السيد عزيز أخنوش قبل تنصيبها، رفعت السقف عالياً، وقدمت وعوداً كبيرة لمختلف القطاعات، وبشكل خاص، رجال التعليم والصحة، وتحدثت عن "توطيد أسس الدولة الاجتماعية"، واعتبرت أن مهمتها الأساسية، هي إنقاذ القطاعات الاجتماعية الرئيسة ممثلة في التعليم والصحة والسكن والشغل، وهو ما جعل النظر منصباً على أول قانون للموازنة المالية ستعتمدها في ولايتها، وما إذا كان سيعكس هذه التطلعات؟ أم أنه سيخضع لإكراهات الواقع الثقيلة، وسيمضي في الاتجاه الذي يعكس الهوية الحقيقية للحكومة والتشكيلة الاجتماعية التي انبثقت منها؟
يبدو من المؤشرات الكبرى التي حددتها الحكومة لنسب النمو وعجز الميزانية، ومدة صمود الاحتياطيات الأجنبية، أن الإكراهات الدولية والإقليمية، فضلاً عن واقع الجفاف، ومواجهة تداعيات أزمة كورونا، لم تسمح لها برفع تطلعات كبيرة، ولذلك، لم تتوقع تحقيق أكثر من 1.5% من نسبة النمو لسنة 2022، مع توقع تراجع في عجز الميزانية بـ0.6 نقطة (من 5.9% إلى 5.3%)، والحفاظ على الاحتياطيات من العملة الصعبة في مستوى يعادل 6 أشهر من الواردات.
المثير في هذه التوقعات، أنها تقوم على فرضيات صارت اليوم محل جدل كبير بين الفرقاء السياسيين، وأيضاً بين خبراء الاقتصاد أنفسهم، فالحكومة تقول بأنها ستصرف 26 مليار درهم على تكاليف إيراد الغاز من صندوق المقاصة، في حين سجلت السنة الماضية (وهي السنة التي كان فيها سعر الغاز في الأسواق منخفضاً عن الثمن المتوقع بـ100 دولار) حوالي 38 مليار درهم من كلفة استيراد الغاز، بما يعني هشاشة هذه الفرضية وحاجة الحكومة إلى موارد استثنائية في آخر السنة تفوق 12 مليار درهم لسد الخصاص، ما سيؤثر أيضاً على فرضية أخرى تتعلق بنسبة العجز، وأيضاً بنسبة النمو، بحكم أن سداد هذا المبلغ لن يكون متاحاً إلا من خلال خفض في الموارد المخصصة للاستثمار.
الهشاشة الأخرى، التي تعتري رؤية الحكومة في هذه الميزانية، تتعلق بكيفية تدبير الحاجة لموارد مالية إضافية تقدر بحوالي 10% مقارنة مع موارد السنة الماضية، للاستجابة للالتزامات الحكومية، في الوقت الذي تتوقع فيه الموازنة زيادة في النفقات تتجاوز 15% مقارنة بالسنة المالية السابقة.
وإذا كان الجدل حول الفرضيات وصحة نسبة التوقعات (توقع البنك الدولي في تحيين لآفاق الاقتصاد العالمي أصدره في شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أن يحقق اقتصاد المغرب نمواً بنسبة 0,8% فقط) ينحصر بين السياسيين وخبراء الاقتصاد، فإن الجدل حول هوية الموازنة، وطبيعتها، والفئات الاجتماعية التي تخدم، قد اخترق كل الفئات الشعبية، بحكم حجم الانتظارات التي كانت تتوقعها من هذه الموازنة.
فقد بدأت بشكل مبكر الانتقادات تحاصر الحكومة بسبب تذرعها بالإكراهات الدولية، وبتقلبات أسعار الطاقة في الأسواق الدولية، وبواقع سنة أخرى من الجفاف، وما تعنيه من فقدان 13% من القيمة المضافة التي تشكلها الفلاحة للاقتصاد المغربي، فتم اتهامها بالتغطية على الفرص التي أتاحتها الظروف الدولية، وحجم المكاسب التي حققها المغرب من جراء ارتفاع صادراته من الفوسفات ومشتقاته بواقع 68%، وارتفاع مبيعات قطاع السيارات بواقع 29%، هذا فضلاً عن تحويلات الجالية المغربية في الخارج، والتي قدرت هذه السنة بأزيد من 71 مليار درهم نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، ودون أن يغفل أيضاً الانتعاشة الكبيرة التي عرفها قطاع السياحة، إذ استرجع عافيته، وأصبح يحقق المستويات التي حققها قبل جائحة كوفيد.
والحاصل أن استقراء جميع عناصر الموازنة المالية لحكومة عزيز أخنوش، يزكي تكريسها لتوجهين اثنين: الأول، هو العجز عن تلبية انتظارات الشرائح الواسعة من الشعب المتضررة بسبب ارتفاع الأسعار وتهاوي قدرتها الشرائية، أي فشلها في إضفاء طابع اجتماعي على موازنتها المالية، رغم حرصها على الحديث عن تكريس دعائم الدولة الاجتماعية، وأما التوجه الثاني، فتمثل في تكريس هوية طبقية لهذه الحكومة، تراعي مصالح الشركات الكبرى، وتتجاهل القيام بأي إجراء يمس مصالحها.
مؤشرات التوجه اللااجتماعي لهذه الموازنة، يتمثل في التنكر لعدد كبير من الالتزامات التي رفعتها في برنامجها الحكومي، فسواء تعلق الأمر بالوعود الكبيرة التي قدمتها لرجال التعليم (رفعت شعار رفع أجور هذه الفئة بـ2500 درهم) أو بما أسمته مدخول الكرامة (منح دعم للفئة المعوزة من فئة 65 سنة فما فوق)، أو منح الأسر المعوزة تعويضات عائلية عن الحمل الأول والحمل الثاني، أو ما يتعلق بتفعيل الزيادة في التعويضات العائلية للموظفين، أو ما يرتبط كلية بترجمة التزامها في الحوار الاجتماعي، الذي وقعته مع النقابات في أبريل/نيسان الماضي ووعدت بتطبيقه في أول موازنة مالية لها، لم تفِ الحكومة بأي شيء من ذلك، فرفضت مطلب الزيادة العامة في الأجور، ورفضت مطلب تخفيض الضريبة على الدخل، واكتفت بإجراء واحد بسيط يهم الرفع من الخصم على التحملات المهنية، ورفع نسبة الخصم الجزافي المطبق على المعاشات والإيرادات، وهو الإجراء الذي لا يتعدى أثره زيادة هزيلة تتراوح ما بين 85 و187 درهماً.
وفي مقابل هذا التوجه اللااجتماعي، الذي يكرس واقع تحميل المجتمع تكاليف ارتفاع الأسعار، برز توجه آخر يميل إلى محاباة الشركات الكبرى، ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه من الحكومة أن تتجه إلى فرض ضرائب استثنائية على الشركات التي حققت أرباحاً خيالية، مثل شركات المحروقات وشركات الاتصالات، على غرار ما تفعل مع الأبناك والتأمينات، أعفت الحكومة هذه الشركات من هذه الضريبة الاستثنائية، في الوقت الذي طالب فيه مجلس المنافسة بتضريب شركات المحروقات، واتجهت فيه عدد من الدول في أوروبا وكذلك الولايات المتحدة إلى هذا النهج، وهو ما يطرح التساؤل عريضاً عن حدود المسافة بين الحكومة التي يمتلك بعض وزرائها شركات كبرى في هذا القطاع، وبين توصيات المؤسسات الدستورية التي ترعى التوازن والحكامة والوساطة بين المجتمع الدولة.
على أن ما يكرس أكثر هذا التوجه، أي محاباة الشركات الكبرى، هو ما تم اعتماده في الإجراءات الضريبية، إذ في الوقت الذي كان ينتظر من الحكومة أن تستثمر نتائج المناظرات الوطنية التي عقدت حول العدالة الضريبة خلال السنوات الـ6 الماضية، جاء قانون الموازنة، يكرس محاباة الشركات الكبرى، فقد تم رفع الضريبة على الشركات الصغرى والمتوسطة من 10% إلى 30%، (أي بواقع 10 نقاط)، بينما تم رفعها بالنسبة للشركات الكبرى بواقع 4 نقاط فقط، وذلك من 31% إلى 35%، مع إتاحة الفرصة لاسترداد ما أخذ من الباب عبر أخذه من النافذة، إذ خفضت الحكومة الضريبة على توزيع الأرباح (ويهم هذا فقط الشركات الكبرى) من 15% إلى 10%.
جواب الحكومة في محاولة لتثبيت توجهها الاجتماعي، يركز على سياسة تعميم التغطية الاجتماعية (المجال الصحي) والرفع من ميزانية القطاعات الاجتماعية (تخصص أكثر من 68 مليار درهم لقطاع التربية الوطنية، أي بزيادة 6.5 مليارات درهم مقارنة مع سنة 2022، ورفع ميزانية وزارة الصحة بحوالي 19% إلى أكثر من 27 مليار درهم، بزيادة قدرها 4.6 مليار درهم مقارنة مع سنة 2022)، لكن هذه الأرقام، إذا وضعت في جانب، ووضع في مقابلها، غياب أي إجراء يهم إحداث مناصب شغل في القطاع الخاص (نشرة وزارة المالية الفصلية تتحدث عن فقدان 58 ألف منصب شغل من الفصل الثالث من العام الماضي للفصل الثالث من هذه السنة)، فإن الزيادة في ميزانية القطاعات الاجتماعية، الذي يهم تقوية الرأسمال البشري وتعزيز فعالية المنظومة التربوية والصحية، لا يجيب على المدى القريب والمتوسط على سؤال تدهور القدرة الشرائية وتهاوي الطبقة الوسطى وتوسع الفئات الفقيرة، بل يشعر بإمكان التأثير على مقومات السلم الاجتماعي، وتفجر احتجاجات فئوية على أكثر من مستوى، وهو ما بدأ يتفجر في أكثر من قطاع، ويحتمل أن يتوسع في المدى القريب والمتوسط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.