تثور مشكلة الحريات الأكاديمية في مصر كلما بدأ عام جامعي جديد، رغم أن النشاط الجامعي هو نشاط متواصل على مدار العام، إذ إنه لا يرتبط بالضرورة بالتدريس وإلقاء المحاضرات التي تُعد جزءاً من النشاط الأكاديمي.
وكغيره من العلوم الاجتماعية، لا يوجد تعريف قاطع ومانع للحريات الأكاديمية، خاصة أن هذا المفهوم مرتبط بأمرين، أولهما التعليم والبحث العلمي، وثانيهما حقوق الإنسان والحريات العامة.
ورغم أن الحريات الأكاديمية جرى الدفاع عنها منذ عدة عقود، فإنها كمفهوم لم يتم التطرق إليه إلا في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية عام 1966.
وقد كان إعلان ليما عام 1988، والخاص بالحريات الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي، هو الأول الذي تطرّق لهذه المسألة بشكل مفصّل، وكذلك إعلان كمبالا عام 1990 فيما يخص البلدان الإفريقية.
وفي مصر تعرّضت الحريات الأكاديمية، على مر العقود السابقة، لمشكلات، وقد اختلفت درجة المنع ووطأته وفقاً للبيئة العامة التي تعمل فيها الجامعات ومراكز البحث العلمي من عهد إلى آخر، لكن تلك الحريات كانت مرتبطة بثلاثة أمور رئيسة:
أولاً، هناك المناخ العام الذي تعمل فيه المنظمة الرئيسة الموكول لها عملية التدريس والبحث العلمي، وهي الجامعة. فكلما كان هذا المناخ يتسم بالأفق الواسع، كان مناخ الحريات الأكاديمية كبيراً. والعكس صحيح، فكلما كان هذا المناخ يتسم بضيق الأفق والانسداد، كانت تلك الحريات في حاجة إلى الفكاك من نير الفكر المتكلس ودياجير ظلام المعتقدات الشمولية.
وفي مصر، وعلى الرغم من أن هناك حراكاً يسعى إلى الفكاك من انغلاق المناخ العام، ممثلاً ذلك في الإعلان عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان عام 2021، وكذلك الحوار الوطني بين السلطة والمعارضة منذ يوليو 2022، وهما الخطوتان البارزتان اللتان قامت بهما السلطة بعد التحرر النسبي من ضغوط جماعة الإخوان المسلمين، والمتحالفين معها من جماعات العنف في الداخل، وتحجيم عديد القوى الدولية الخارجية المؤيدة لهم.
(رغم ذلك كله) فإنه ما زالت هناك خطى كثيرة على درب انفتاح المجال العام، ممثلة في حرية الفكر والبحث والتعبير والتظاهر والإضراب والاجتماع، وحرية الإدلاء بالصوت وفق قوانين طبيعية بعيدة عن نظم القائمة المطلقة التي ترتبط بالتزكية أو بما يشبه تعيين السلطة للنواب، وكذلك المغالاة في الحبس الاحتياطي، وسجن أنصار الفكر والرأي غير المتماهي مع أفكار وآراء السلطة، وخلو المجتمع من الإعلام الحر والنزيه بعد بيع قنوات التليفزيون الفضائية لشركات غير بعيدة عن دوائر السلطة، وتعيين السلطة التنفيذية لرؤساء الهيئات القضائية وفق نظام شبيه بتعيين القيادات الجامعية، والتضييق على المجتمع المدني خاصة المنظمات الدفاعية، وعدم عقد انتخابات المجالس المحلية منذ أكثر من عقد… إلخ.
ثانياً: هناك المناخ الخاص الأضيق جغرافيا، وهو مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي، وتلك المؤسسات تعمل في البلدان المتمدينة وفق قواعد الحوكمة، وكذلك وفق مناخ يتسم باستقلالية الإدارة الجامعية والبحث العلمي، ما يجعل المجال الأكاديمي والبحثي يتسم بالرحابة، الأمر الذي ترجم بكون تلك الجامعات تحتل المراتب الأولى ضمن الـ500 جامعة الأكثر نضجاً على مستوى العالم، وفق تصنيف مؤسسة QS في المملكة المتحدة.
وفي مصر، لنا أن نتخيل مدى الأفق الجامعي والأكاديمي عند الحديث عن أن القانون الذي يحكم تنظيم الجامعات، هو القانون رقم 49 لسنة 1972، وهذا القانون رغم تعديله عدة مرات، فإن مواده تخلو من أي تعبير يتصل بالحريات الأكاديمية.
كما يمكن أن نتخيل مدى هذا الأفق، ونحن أصبحنا منذ العام الدراسي 2015/2014 نقوم على تعيين السلطة التنفيذية لرؤساء الجامعات وعمداء الكليات في الجامعات العامة، التي ما زال يعتمد عليها تقريباً أكثر من نصف الجهد العلمي الجامعي، وسط تزايد الجامعات الخاصة والجامعات والأهلية.
ما يشكل في واقع الأمر تدخلاً سافراً في الحريات الأكاديمية، حيث يصبح ولاء المعينين لمن عينوهم وتوجهاتهم وأفكارهم ومبادئهم، والتي قد لا تتطابق بالضرورة مع الأفكار والمبادئ المرتبطة بالمنهج العلمي في التدريس وعملية البحث العلمي الحر والنزيه.
ثالثاً: هناك النسق العَقَدي والفكري للأستاذ الجامعي أو الباحث الذي يعمل في بيئة كبيرة (نظام سياسي) وصغيرة (الجامعة أو مركز البحث العلمي)، والذي يستطيع أن يستغل كل الإمكانات لينفذ إلى الأفق الأرحب والأكثر اتساعاً، بالنظر إلى تلك البيئة المحيطة.
ومما لا شك فيه أن الناظر إلى وضع هذا الأستاذ في الولايات المتحدة أو اليابان أو فرنسا أو المملكة المتحدة، سيجد أن الأستاذ بما لديه من بيئة مشجعة على الحرية والإبداع والابتكار، قادر على أن يعطي الكثير للمؤسسة التي يعمل بها، حتى لو لم يكن منتمياً لها برباط الجنسية.
وفي مصر، رغم أن هناك الكثير من الأساتذة والباحثين يسعون جاهدين في ظل المجال العام المتسم بالضيق أن يقوم بالتعبير عن أفكاره ونشر أبحاثه وتجاربه واستطلاعات رأيه، مستغلاً أحياناً كثيراً من الثغرات القانونية أو العلاقات الشخصية، فإن هناك الكثير أيضاً ممن هم يعملون في المجال الأكاديمي يؤثرون السلامة من خلال ما يمكن تسميته بالرقابة الذاتية على أعمالهم، بحيث يحيط الأستاذ أو الباحث نفسه بسياج من الخوف الحقيقي أو المبالغ فيه، مما يمنعه من القيام بعمله بموضوعية وحياد ونزاهة.
يبقى السؤال: في ظل الأشكال العديدة لانتهاك الحريات الأكاديمية، ما أبرز تلك الأشكال، التي يرتبط بعضها بالعزل الوظيفي أو السجن أو منع الترقي أو مصادرة المطبوعات؟
انتهاكات تتصل بالبحث العلمي
تلك الانتهاكات تطال التحكم في موضوعات الرسائل العلمية، بحيث تبتعد موضوعات تلك الرسائل عن المساس بالثوابت التي تراها الجهات الأمنية.
وتصل الأمور في بعض الأحيان، إلى أن تتغير النتائج التي تم التوصل إليها لتمرير الرسالة، وقد تعرّض كاتب هذه السطور ذاته لذلك، عندما انسحب رئيس ديوان رئيس الجمهورية الأسبق، زكريا عزمي، من مناقشة رسالة الدكتوراه الخاصة به، والمتصلة بـ"الرقابة البرلمانية في النظم السياسية (حالة مصر)"، بسبب بعض الأمور التي توصّل لها الباحث نتيجة المعلومات التي حصل عليها.
انتهاكات تتعلق بالمؤتمرات
وهنا يتم وضع كل كبيرة وصغيرة تتعلق بتنظيم المؤتمرات العلمية أمام الجهات التنفيذية. يحدث ذلك في الأمور التي لا ترتبط بالشأن السياسي فقط، بل بالشؤون الاقتصادية والاجتماعية. بل كثيراً ما يوجد ممثل لتلك السلطة داخل المؤتمر لكتابة التقارير عما دار بالمؤتمر، بعد أن تكون قد أعلنت الموافقة على عقده.
وبالمثل يحدث في المؤتمرات التي تنظم خارج مصر، بأن تمنح تصريحات المشاركة أو لا تمنح حسب موضوعات المؤتمر، والجهة الداعية له، والدولة المضيفة، وكل هذه الأمور تشكل انتهاكات كثيرة للحريات الأكاديمية.
الحد من الانتقالات
ترتبط الحريات الأكاديمية بحرية الانتقال، وفي هذا الصدد، يُمنع أحياناً حضور الأساتذة والباحثين لمؤتمرات محددة أو اجتماعات معينة، قد يكون الأستاذ فيها مجرد مراقب أو ضيف أو باحث ملاحظ لما يدور في الاجتماع. وقد يتعرض الحاضر للاجتماع للتضييق عليه عند عودته ودخوله البلاد، فيتم تفتيشه، وحجز الكتب والمطبوعات التي في حوزته.
منع التمويل
قد ترتبط الحريات الأكاديمية بالتضييق على البحث منذ البداية بالتحكم في تمويله، لمجرد أن هناك جهات أجنبية لا علاقة لها بتهديد الأمن القومي (الكيان الصهيوني-إيران-تركيا… إلخ) تمول البحث.
وقد يسفر ذلك عن إلغاء البحث رغم أن الجهة الممولة تمول هي نفسها الدولة بالمنح والقروض، ورغم أن تلك الجهات لا تضع أية شروط لنتائج البحث.
وقد يؤدي منع التمويل إلى خسارة للدولة ذاتها. خذ على سبيل المثال منع تمويل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لمؤتمرات لإدارة رشيدة للانتخابات البرلمانية بالتعاون مع اللجنة العليا للانتخابات عام 2015، رغم تحمل البرنامج ملايين الدولارات لشراء مواد كثيرة تخص لجان الانتخابات.
قيود التدريس والنشر
تطال الحريات الأكاديمية عمليات التدريس والنشر، بل أحياناً الظهور في القنوات الفضائية، لتعبير الأستاذ الجامعي أو الباحث عن الرأي والفكر، وفق ما يراه الباحث أو الأستاذ من منهج علمي رصين في تحليل الظواهر الاجتماعية المختلفة، وذلك كله بسبب عدم انسجام تلك الرؤى مع الرؤى الرسمية.
من كل ما سبق، يلاحظ أن هناك الكثير من الأمور التي تحتاج إلى تغيير فيما يتعلق بالحريات الأكاديمية في مصر. وخلال الأسابيع القليلة القادمة، من المنتظر أن تناقش كل هذه الأمور ضمن فعاليات لجنة التعليم التابعة للحوار الوطني الذي دعا له رئيس الدولة، وسترفع تلك اللجنة قراراتها للرئيس، والتي ستكون بلا شك إيجابية لصالح حرية البحث العلمي والأكاديمي.
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.