أحد أبرز الموضوعات تداولاً في الفضاء الافتراضي المصري مؤخراً يتمثل في واقعة طرد عامل القمامة من أحد مطاعم الكشري الشهيرة في منطقة وسط البلد، إلى أن تحول بطل الواقعة إلى أيقونة مزعجة، لها مغامرات متفرقة في أماكن كثيرة.
فمن لقائه مع الفنان أحمد العوضي، فلقائه غير المكتمل مع الفنان إدوارد، إلى حضوره عزاء المحامي المصري البارز فريد الديب، وحتى زواجه من مذيعة مغمورة، وتحضيره لأغنية شعبية مع نجل شعبان عبد الرحيم، هناك "حالة" ترافق هذا الرجل.
ما يثير الشكوك حول الواقعة، هو توقيتها، حيث تعيش البلاد جواً سياسياً مضطرباً، خلال قمة المناخ، وقبل موجة تظاهرات مرتقبة من ناحية، والإصرار الشديد على مط ذلك الموضوع بأيِّ طريقة من أطراف خفية من ناحية أخرى.
المواطن حمادة جديد؟
إبان العام اليتيم الذي حكمه الراحل محمد مرسي ظاهراً، كان الطرف الثالث، أو اللهو الخفي، يعمل كثيراً على الأرض، وفي أحد مواقع الاشتباك الأكثر سخونة حينها، وقعت حادثة شهيرة، وهي واقعة سحل المواطن "حمادة صابر" من الأجهزة الأمنية المحسوبة على الرئيس، بقسوة، بجوار قصر الاتحادية.
تلقى الإعلام، الذي كان يُدار من غرف محددة حينها، صارت معروفة اليوم باسم "أصحاب السامسونغ" تلك الواقعة، كما لو كانت كنزاً من السماء، فاقتُطعت ساعات طويلة من الهواء، لتسليط الضوء على واقعة سحل مواطن مصري مسكين، على بُعد أمتار من مقر الحاكم الإسلامي، بعد أسابيع من ثورة يناير، التي قامت، من بين ما قامت عليه، ضد الممارسات المشابهة من أجهزة الأمن.
وبأفق عذري خالٍ إلى حدٍّ كبير من هواجس المؤامرة، تلقى الرأي العام المصري، بأطيافه السياسية، الواقعة، بألم واندهاش كبيرين، وتعاطف مع حمادة صابر، الذي سُحل، على نحو مهين، لا لشيء إلا لمجرد وجوده بالقرب من منطقة محرمة، وهي مقر الحكم.. هكذا روَّجوا حينها.
بعد أعوام من ابتلاع الطُّعم، نكتشف لاحقاً أن المواطن حمادة، بفضل مادة استقصائية عمل عليها بطل شاب اسمه مهند جلال، تم بثها على "الجزيرة الوثائقية"، لم يكن إلا عضواً في تنظيم خفي، متشعب ومتعدد الطبقات والانتماءات، يعمل، ميدانياً، ضد قوى الثورة، بهدف التصدي لها نيابة عن أجهزة الأمن، التي كانت مرهقة ومضغوطة آنذاك، ولم تكن في وضع يسمح لها بالظهور في الصورة؛ فأسندت تلك المهمة إلى "المواطنين الشرفاء"، ذراع الدولة المكونة من بلطجية ومؤيدين لمبارك وكارهين لكلِّ ما هو ضد الحكم العسكري.
أحمد العوضي.. أول الخيط!
أحد أبرز الملامح الّتي طوّرتها الدولة العميقة في حقبة السيسي، كان الوعي بضرورة امتلاك جيوش من المؤيدين، من القوى الناعمة، أو الأذرع بتعبير السيسي نفسه، ليكونوا في ظهر النظام الحاكم أحياناً، وفي مقدمته أحياناً أخرى، حسب السياق والحاجة.
هذه الجيوش غير النظامية على أتمِّ الاستعداد للنزول إلى الشارع لدعم الرئيس في أوقات الأزمات، وأعضاؤها فاعلون إلكترونياً ضد خصوم السيسي على الإنترنت، وبعضهم منخرطون في أحزاب وكيانات صورية تقتات على مواسم الانتخابات، والنسخة الأكثر تطوراً منهم هي شركات العلاقات العامة واللجان الإلكترونية المدفوعة والإعلاميون والفنانون الذين صاروا أسلحة للنظام خلال الأعوام الأخيرة.
للتذكرة هنا؛ فقد تحدث السيسي صراحة عن الكتائب الإلكترونية، وشاهدناها جميعاً على "تويتر" في سبتمبر/أيلول 2019 بشكلٍ واضح، كما بات معلوماً بالضرورة لكلّ متابعي الشأن المصري أن معظم الإعلاميين يتلقون الخطوط العريضة لموضوعاتهم من الأجهزة الأمنية، وقد أعلنت "فيسبوك" تفكيك شبكات لجان إلكترونية تدار لخدمة النظام المصري وتموَّل من أموال المصريين مراراً، وحتى الفنانين وشركات الإنتاج الفني باتوا تحت إمرة "المتحدة"، التي تدير إخراج سلاسل أعمال بطولات النظام، من الممر إلى الاختيار وما شابههما.
في واقعة الكشري، كان في مقدمة من تلقَّف "التريند" وعاملاً من عوامل تثويره وانتشاره، الممثل أحمد العوضي، الذي انخرط في عدة أعمال بارزة لخدمة النظام خلال الأعوام الأخيرة، واستعان به السيسي للردّ على المقاول قبل 3 أعوام في مقطع شهير، ضمن عدة وجوه مختارة، كما التقى السيسي شخصياً في عدة مناسبات قومية ضمن زملائه العاملين مع "الشؤون المعنوية"، وقد أمر السيسي بتسفير زوجته الحالية، ياسمين عبد العزيز، للعلاج خارج البلاد في حادثة سابقة.
أما عن التغطية الإعلامية، فكانت من الموقع الذي يدار من المخابرات العامة والأمن الوطني، وهو موقع "القاهرة 24" الذي تجمع مديره الحالي والعوضي علاقةُ صداقة وطيدة، والذي ينفرد ببث الأخبار الحصرية المراد تسريبها من داخل النظام، لكي يكون موازياً كتابياً لمحطات "إكسترا نيوز" و"القاهرة" التي ظهرت قبل أيام، كواجهات إعلامية مميزة للنظام.
ما الغرض؟
لا يمكن تحديد الغرض الرئيس من ذلك "التريند" بعينه إلا بالحوار المباشر مع صنّاعه خلف الكواليس، ولكنّ الظاهر أنّ هناك رغبة، أولاً، في تشتيت الرأي العام، بعيداً عن الموضوعات الكبرى الأكثر إزعاجاً للسلطة، من غلاء للأسعار وانخفاض حاد في قيمة الجنيه ونقص في العملة الصعبة وعجز عن السيطرة على الأسواق واستمرار للمشكلات الكبرى دون حل مثل سد النهضة.
وثانياً، هو اختبار القدرة على التأثير في الرأي العام المحلي، وصنع الحدث، وتحليل التفاعل معه باستخدام الأدوات الحديثة، وهي المهمة التي كشف السيسي في مناسبات كثيرة عن اهتمامه الشخصي بها، من خلال انتقاد تريندات معينة، أو السخرية من أخرى، أو الاستعانة بالكوميكس في توجيه رسائل اجتماعية، وهو أحد الدروس التي ترسخت في وعي نظام الـ3 من يوليو/تموز، جراء ثورة يناير/كانون الثاني 2011.
وأخيراً، بث رسائل اجتماعية مبطنة، هي المعادل الموضوعي لشكوى السيسي نفسه من ارتفاع الأسعار، وتعاطفه مع المواطن محدود الدخل، الذي لا بد أن يصبر، لأن الدولة تبذل أقصى ما في وسعها لتحسين حياته رغم الأزمات العالمية، وهو ما بدا في العطف الشديد من الفنان الجدع، أحمد العوضي، مع جامع القمامة، في مشهد تقطيع السمك الفاخر له أمام كاميرات "القاهرة 24″، فتصل الرسالة لكلِّ من يهمه الأمر بأنّ كلنا في مركب واحدة، وبأنّ الفوارق الطبقية الفاقعة يمكن علاجها بعزومة سمك، أو بعلاوة استثنائية 300 جنيه!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.