في واحد من خطاباته الطويلة خلال فعاليات المؤتمر الاقتصادي الأخير، تحدّث رأس النظام عن مسألة المشروعات الصغيرة ودعم الدولة لها، فاستطرد بعيداً عن النص المكتوب، كعادته، متخلياً عن الفصحى ومستعيناً بالعامية: "خلونا نتكلم عن مثال حقيقي، وأنا بكلمكم فيه بكل صراحة؛ مدينة الأثاث في دمياط، إحنا عملنا هناجر وورش"، ثم توجه بنظره لرئيس الوزراء متسائلاً: "هما أهل دمياط جاءوا فيها يا دكتور؟!".
فهز رئيس الوزراء رأسه بالنفي.
فأكمل كلامه: "لأننا معملناش حسابنا على البعد الاجتماعي، العامل اللي بيشتغل، الأول كان بيته فوق الورشة، بيبعت يطلب شاي، يطلع يرتاح وسط النهار، لكن هذا لم يتوفر، فلم يأت".
يتحدث السيسي هنا عن أسباب فشل مشروع مدينة الأثاث في دمياط، التي تكلفت -وفق تقارير صحفية تابعة للنظام- ما يقارب 3.6 مليار جنيه، لكن يبدو أنها نُفذت دون دراسة جدوى، كعادة مشاريع السيسي، ووفقاً لاعترافه السابق.
قد تظن أن هذا الدرس القاسي في إهدار مليارات مصرية كانت كفيلة بانتشال الملايين من الفقر، لو أنفقت على مشاريع منتجة، أو تطوير قطاع التعليم ليوازي التعليم في البلاد المتقدمة، ستدفع السيسي للتراجع عن مبدئه في عدم أهمية عمل الدراسات!
لكن تتفاجأ به مرة أخرى، وأثناء افتتاحه بعضاً من مشروعات مبادرة "ابدأ" لتطوير الصناعة، يكرر حديثه عن عدم جدوى وضع دراسات للمشروعات المُزمع تنفيذها، مشيراً إلى أن دراسات الجدوى هي للمشاريع التي لا نعرف أبعادها، لكن المشاريع المحسومة، لا تحتاج أبداً لتلك الدراسات.
وتساءل: "محتاج تعمل دراسة جدوى لمشروع مهم ليه؟!".
مشروعات مبادرة "ابدأ" متوقع أن تتخطى تكلفتها 200 مليار جنيه، مشاريع جديدة، وبتكلفة مهولة، المصيبة أنها من دون دراسات جدوى!
إمكانيات مصر
خلال مداخلته الهاتفية مع المذيع يوسف الحسيني، ببرنامجه على القناة الأولى المصرية، مساء الثلاثاء الماضي، والتي استمرت ما يقارب الساعة وثلث الساعة، ردد السيسي أكثر من مرة، عبارة: "الناس في مصر مش فاهمة إن دي إمكانيات بلدهم، في فرق بين إني مش عايز أعمل ومش قادر أعمل، أنا نفسي أعمل كتير لكن مش قادر، مفيش إمكانيات".
في إشارة لإمكانيات مصر الاقتصادية التي يصر السيسي على ضعفها وترسيخ قناعة شعبية بذلك، وعلى كونها السبب فيما تعانيه البلاد من أزمات طاحنة وتفشٍّ مفزع للفقر بين مواطنيها.
المتتبع لتصريحات السيسي عما تم إنفاقه في مشاريع اعترف هو أخيراً بفشل بعضها، يعرف أن الفشل كان مصير أكثرها، سيُصاب حتماً بالصدمة من ضخامة الأرقام وهول التكلفة:
- مشروع حفر تفريعة جديدة لقناة السويس، جمعت فيه الحكومة من المصريين نحو 64 مليار جنيه للبدء في المشروع (نحو 10 مليارات دولار وقتها)، ولم يكفِ المبلغ بسبب الرغبة في ضغط المدة لعام واحد (دون أي مبرر) فاقترضت الدولة نحو 850 مليون دولار من البنوك المحلية، بينما تحملت الميزانية العامة للدولة حوالي 7.6 مليار جنيه سنوياً، هي مقدار خدمة الدين لـ64 ملياراً جرى جمعها.
ومع أول ذكرى لافتتاحها، عقب تداول الأحاديث عن انخفاض إيرادات القناة الرئيسية، وكثرة التساؤلات عن جدوى التفريعة الجديدة، قال السيسي بحوار تلفزيوني في يونيو/حزيران 2016، إن الهدف من المشروع كان "رفع الروح المعنوية للشعب المصري!".
- مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، التي وصفت بكونها "ثقباً أسود" ابتلع موارد مصر عبر سنوات، دون وجود فائدة تذكر على المواطنين أو الاقتصاد، صرح المهندس خالد عباس، نائب وزير الإسكان للمشروعات القومية، بأن حجم الإنفاق به حتى شهر مارس/آذار الماضي 2021 بلغ من 400 مليار إلى 500 مليار جنيه.
- مدينة العلمين الجديدة، التي كشف وزير الإسكان، العام الماضي، عن مجموعة أبراج بالمدينة، بلغت تكلفتها وحدها 38 مليار جنيه.
- بلغت تكلفة مشروعي المونوريل والقطار السريع -وفق تصريحات رسمية- 26 مليار دولار، أي ما يزيد على 400 مليار جنيه.
- الطائرة الرئاسية الجديدة من طراز بوينغ (747-8) القصر الرئاسي الطائر، والملقبة بـ"ملكة السماء"، التي تعاقدت عليها حكومة السيسي، وتسببت أخبارها في صدمة للشارع المصري، بلغت تكلفتها نصف مليار دولار (9 مليارات جنيه بسعر الصرف وقتها) وهي تعتبر خامس طائرة رئاسية تشتريها مصر بزمن السيسي، ففي عام 2016 وقَّعت الحكومة المصرية عقداً مع شركة داسو الفرنسية لشراء 4 طائرات من طراز "فالكون إكس 7" الفاخرة، الصفقة بلغت قيمتها 300 مليون يورو، أي ما يوازي قرابة 4 مليارات جنيه مصري، وتضاف جميعها إلى سرب طائرات رئاسية تملكه مصر يصل عددها إلى 24 طائرة. فضلاً عن شراء السيسي أيضاً قبل ذلك أنظمة مضادة تعمل بالأشعة تحت الحمراء لحماية طائراته الرئاسية بقيمة 104 ملايين دولار.
طائرات فارهة وأنظمة حماية بتكلفة خيالية لتنقلات فرد واحد في دولة تعاني من قلة الإمكانيات؟!
ناهيك طبعاً عن صفقات شراء السلاح، التي جعلت من مصر، وفقاً لـ"معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" (SIPRI) ثالث أكبر مستورد للسلاح بالعالم عام 2020، وأنفقت مصر عليها ما يقرب من 44 مليار دولار أمريكي (800 مليار جنيه مصري).
وعن القصور الرئاسية، فحدث ولا حرج ، فلم يقنع السيسي بما تملكه مصر من عدد 30 قصراً واستراحة رئاسية، فأضاف إليها قصراً في العاصمة الإدارية، مساحة السكن الرئاسي به (طبقاً لتقرير بموقع الجزيرة مباشر، اعتمد على صور ملتقطة بالأقمار الصناعية) تُقدر بـ50 ألف متر مربع، أي أنه 10 أضعاف مساحة البيت الأبيض، الذي تبلغ مساحته 5 آلاف متر مربع فقط.
يُضاف لها قصر رئاسي أسطوري، بمدينة العلمين الجديدة، على ساحل البحر المتوسط، شكَّلت صوره صدمة لدى رواد مواقع التواصل حين تم نشرها أول مرة عام 2018 على صفحة مدينة العلمين.
ومجمع لرئاسة الجمهورية، بالغ الضخامة، يتم إنشاؤه قرب مدينة المستقبل بطريق مصر الإسماعيلية الصحراوي، كشفت عنه تقارير صحفية، رغم التكتم الرسمي بشأنه.
كما أراد السيسي تخليد اسمه ببناء مسجد أطلق عليه اسم "الفتاح العليم"، بالعاصمة الإدارية، تم افتتاحه في يناير/كانون الثاني 2019 ليُعد أكبر مساجد مصر بسعة 17 ألف مُصلٍّ.
وفور الانتهاء منه، تم البدء في مشروع بناء مسجد مصر، الذي سيعد رابع أكبر مساجد العالم بسعة تتجاوز 100 ألف مصلٍّ ويضم أعلى مئذنتين في مصر بارتفاع 140 متراً، وبتكلفة مبدئية قدرت بـ750 مليون جنيه (قرابة المليار).
بالإضافة لبناء أكبر كاتدرائية قبطية بالشرق الأوسط، تسمى كاتدرائية "ميلاد المسيح"، على مساحة 15 فداناً وتسع أكثر من 8000 آلاف فرد، وتتواجد كذلك بالعاصمة الإدارية.
كما تم بناء أعلى سارية علم في العالم بارتفاع 207.8 متر ويتخطى ارتفاعها برج القاهرة، تتكون من الحديد الصلب بوزن إجمالي 1040 طناً وتكلفة تجاوزت
55 مليون جنيه.
ويبقى الهوس الأعظم ببناء الكباري، السمة المميزة لعصر السيسي، الذي بشر المصريين في عام 2020 ببناء 40 كوبري جديداً في القاهرة وحدها تكلفة تنفيذها تتخطى الـ16 مليار جنيه.
بينما نشرت وزارة النقل، في بيان لها في 29 يونيو/حزيران من هذا العام، إنجازات الوزارة خلال 8 سنوات، فحدثتنا عن بناء 900 كوبري ونفق جديد في مختلف محافظات مصر.
تغييب العلم
مشاريع كبرى، أنفق عليها بجنون، بينما تفتقر لدراسات الجدوى، ومبادئ المحاسبة والشفافية والمسؤولية، فلم تستفِد منها البلاد إلا بإهدار الأموال وتضييع الموارد، وتجميد الثروات في كُتل أسمنتية وحديدية، مع إهمال تام لأولويات المواطن من غذاء وصحة وتعليم.
والنتيجة، تضاعفت ديون مصر 3 مرات خلال سنوات حكم السيسي، وارتفع الدين الخارجي لها ليصل إلى نحو 160 مليار دولار. وارتفعت معدلات الفقر في البلاد، وفقاً لتقارير حكومية، لتصل إلى 32.5% من عدد السكان، بنهاية العام 2018، وما زالت تواصل الارتفاع. وهوى الجنيه المصري إلى مستوى قياسي جديد أمام الدولار، ليتجاوز -حتى الآن- سعر الدولار الواحد 24 جنيهاً، عقب التعويم الثاني الذي شهدته مصر لعملتها هذا العام.
وهنا يلح على عقولنا سؤالٌ، يصرخ فينا، ووجب طرحه: هل مصر بالفعل تُعاني من قلة إمكانيات كما وصفها السيسي، أم من قلة عقل وضمير وتغييب للعلم؟!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.