في خطاباته المطولة خلال أيام المؤتمر الاقتصادي الأخير ما بين 22-25 أكتوبر/تشرين الأول 2022، ومداخلته مع يوسف الحسيني، تركز جزء كبير من خطاب السيسي حول تخلي الأشقاء عنه في وسط أزمة طاحنة، حيث كان أشهر تصريحاته في هذا المؤتمر "أن الأشقاء والأصدقاء أصبح لديهم قناعة بأن الدولة المصرية غير قادرة على الوقوف مرة أخرى بعدما قدموا لها المساعدات على مدى سنوات لحل الأزمات والمشاكل". علينا إذن أن نتساءل: لماذا إذاً تخلى هؤلاء الحلفاء الاستراتيجيون عنه وعن مصر التي لا تتمثل له إلا في ذاته، حيث يهيمن منطق "أنا البطل والأيقونة"؟
هل تخلى الأصدقاء والأشقاء عن مصر حقاً؟
أواخر أغسطس/آب الماضي، أشار تقرير لموقع إنفيستمنت دوت كوم، نقلاً عن تقرير الوضع الخارجي للبنك المركزى المصري المنشور على موقعه الإلكتروني عن حصول مصر على ودائع خليجية خلال الربع الأول من العام الجاري بقيمة 13 مليار دولار، وأظهر التقرير أن هذه الودائع توزعت بواقع 5 مليارات دولار لكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات و3 مليارات لدولة قطر، وكشف التقرير أن حجم الودائع الخليجية لدى البنك المركزي المصري 28 مليار دولار، وتأتي الودائع الجديدة بخلاف ودائع خليجية أخرى حصل عليها "المركزي" في بداية الانقلاب عام 2013 والتي كانت بمثابة عربون للتحالف الاستراتيجي بين النظام ودول الخليج، ويتبقى منها أرصدة بنحو 14.9 مليار دولار بواقع 4 مليارات دولار للكويت و5.3 مليار دولار للسعودية و5.66 مليار دولار للإمارات.
المعضلة التي يشير إليها التقرير أن الودائع واتفاقية مبادلة العملة مع الصين قد ساهمتا، بجانب أسباب أخرى، في ارتفاع الدين الخارجي قصير الأجل المستحق خلال 12 شهراً، وارتفع الدين الخارجي من أبريل/نيسان 2022 حتى نهاية مارس/آذار 2023، ليصل إلى 26.4 مليار دولار، تمثل 16.7% من إجمالي رصيد الدين الخارجي القائم في نهاية مارس/آذار والبالغ 157.8 مليار دولار.
المعضلة الأكبر هنا والتي اعترف بها وزير المالية، أن الحكومة أفرطت في الاعتماد على الأموال الساخنة وعلى ديون قصيرة الأجل لتنفيذ مشروعات طويلة الأجل ولا يتوقع منها عوائد سريعة تساهم في سداد الديون، حيث صرح وزير المالية محمد معيط في يوليو/تموز الماضي، بأن الدولة المصرية تعلمت الدرس فيما يخص الأموال الساخنة من 3 مرات متتالية في 2018 و2020 و2022.
لكن يبدو أن الدولة المصرية تعلمت الدرس متأخراً جداً فحينها كان يتوجب على الحكومة المصرية أن توفر مبالغ كبيرة جداً لتحل معضلة العملة التي بدأت في مسلسل انخفاض لا يتوقف منذ 2016 وتسارعت خطاه بسبب هروب قرابة 20 مليار دولار من الأموال الساخنة مع بدايات الحرب الروسية الأوكرانية، في وقت تحتاج فيه مصر إلى تسديد فاتورة وارداتها من السلع والحبوب والمواد الغذائية الأساسية. من "ديكتاتور ترامب المفضل" إلى علاقة باردة مع بايدن، يتم عقابه في إطار المنافسات الانتخابية بقطع معونات عسكرية بقيمة 130 مليون دولار للمرة الثانية، بدا أن الولايات المتحدة ومن ثم توابعها الإقليمية غير متأكدة من استقرار نظامه في ظل أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، لكن حتى وإن لم يتخلوا عنه فإننا إزاء تغيير لآليات الدعم بحيث تغطي تكاليفها وتحقق أرباحاً للداعمين وسيطرة على القطاعات الاستراتيجية.
تعثر المفاوضات مع الصندوق وتزايد المشروطيات الدولية والخليجية
من المعروف أن غالبية برامج الصندوق التي أقرت لمصر كما لغيرها، كانت تقتضي ضمانات بزيادة الودائع والاستثمارات الأجنبية؛ وذلك لضمان القدرة على الوفاء بالديون، ولم يكن الهاجس الأساسي لمصر هو التعثر في السداد، بل استمرار الحصول على القروض ولو من أجل تسديد قروض وفوائد ديون قديمة بدعوى دعم الثقة بالاقتصاد المصري، ومن ثم في سبيل ذلك كانت مستعدة لفعل كل شيء.
منذ أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، بدأت التسريبات حول مفاوضات مصرية مع صندوق النقد الدولي في تقرير نشره موقع مدى مصر، أي قبل الأزمة المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية التي مثلت الشماعة الجديدة التي علق عليها نظام "٣ يوليو" كل إخفاقاته بعد استهلاك شماعة أزمة كورونا، الشرط الأهم حينها كان توقف مصر عن دعم سعر الجنيه في السوق. على الرغم من تحرير سعر الصرف ضمن خطة إعادة الهيكلة الاقتصادية في 2016، حافظ البنك المركزي على استقرار قيمة الجنيه عند حدود 15.7 جنيه للدولار الواحد.
كان شرط آخر يلح من قِبل المؤسسات المالية الدولية والقطاع الخاص المحلي وهو توسيع حصة القطاع الخاص في السوق، ومعروفٌ أنّ من قلص هذه الحصة بشكل كبير هي الشركات المملوكة للجيش، فوفقاً لدراسة للباحث الرئيسي في مركز مالكوم كير– كارنيغي للشرق الأوسط، يزيد صايغ منذ نهاية 2020 بدأت المؤسسات المالية الدولية تنظر بعين الاعتبار إلى شركات الجيش باعتبارها تمثّل نسبة كبيرة من جميع الشركات المملوكة للدولة التي تنتج السلع الرأسمالية والسلع الاستهلاكية المعمّرة والملابس والمواد والأطعمة والمشروبات والتبغ والسيارات ومكوّناتها، علاوةً على مبيعات التجزئة ووسائل الإعلام والترفيه وأشباه الموصلات ومعدّات نظام النقل الذكي والأجهزة والمعدّات التكنولوجية، وكذلك باعتبار أن تأثيراتها السلبية على الإنتاج الاقتصادي، والمالية العامة، وتنمية القطاع الخاص، تعد معوقاً أمام برامج الصندوق في مصر.
ومن ثم كانت هناك توصيات تتعلق بملكية الدولة ككل وضمنياً ملكية المؤسسة العسكرية، تتغير بإصلاحات في الأطر الخاصة بالملكية والتنظيم والتمويل، ويبدو أن مصر السيسي استجابت بشكل كبير لمثل هذه الاشتراطات سواء ما يتعلق بإصدار وثيقة ملكية الدولة أو الاتفاق على طرح مزيد من الشركات المملوكة للدولة في البورصة، وهو ما أعلنت عنه حكومة مدبولي في المؤتمر الاقتصادي منتصف مايو/أيار الماضي، فوفقاً لـ"بي بي سي" أعلنت الحكومة المصرية عن خطة جديدة لمجابهة التداعيات الاقتصادية للحرب على أوكرانيا، كان ضمنها خطط لدمج وطرح 7 موانئ كبرى في البورصة، الأمر الذي أثار نقاشاً ومخاوف لدى المصريين، فاعتبرها معارضون "مرحلة جديدة لبيع أصول مؤسسات الدولة"، فيما اعتبرها مؤيدو السيسي خطوة على الطريق الصحيح.
توسع الاستحواذات الخليجية.. لا ودائع من دون ضمانات
خلال الأعوام الماضية بدأت الإمارات سياسة الاستحواذ على الأصول الاستراتيجية المصرية مبكراً عن نظيراتها من دول الخليج فيما شكّل خطّاً سياسياً إماراتياً مهماً بأن لا ودائع أو استثمارات إلا في شركات بقطاعات استراتيجية رابحة، فتوسعت الصناديق السيادية الإماراتية في الاستحواذ على القطاع الصحي الخاص والموانئ وأراضي المشروعات الزراعية الكبرى والتعليم الخاص الدولي.
منذ 2013 وحتى نهاية عام 2020، كان الجزء الأكبر من الديون يأتي من دول صديقة للنظام وعلى رأسها السعودية والإمارات، لكن الأمر- بحسب التقارير– لم يعد سهلاً كما كان من قبل، ففي نهاية عام 2021 طلبت مصر من الإمارات والسعودية ودائع جديدة، لكن رفضت الإمارات تقديم وديعة جديدة، مكتفية بالوديعة القديمة، فيما ماطلت السعودية وطالبت بردّ وديعة قديمة ليتم إعادة إيداع جزء منها من جديد.
وفي السنوات الأخيرة بدأت الودائع الخليجية تنخفض من عام لآخَر مقابل التوسع في الاستحواذات تحت بند الاستثمارات الأجنبية المباشرة، حيث لم تعد لدى الحكومات الخليجية ثقة كافية بـ"مصر السيسي" ذات الفجوة التمويلية المزمنة، إذ تحتاج مصر مستمرة لسيولة من الدولارات لتغطية واردات، منها ما يتعلق بإمدادات الغذاء الرئيسية مثل الأرز والزيت، وضمان استقرار المخزون الآمن من السلع الغذائية الرئيسية التي ارتفعت أسعار بعضها في السوق الدولية لأسباب متنوعة، من بينها تأثر خطوط الإمداد بفعل الوباء، وتأثر بعض المحاصيل بسبب التغير المناخي، إضافة إلى أن ما يحل سداده من أقساط وفوائد ديون قصيرة وطويلة الأجل يتجاوز 36 مليار دولار خلال السنة المالية التي تنتهي آخر يونيو/حزيران 2022، بحسب أرقام البنك المركزي. وهي مبالغ تتجاوز 90% من الاحتياطي النقدي في مطلع العام.
تزايدت المشروطيات الخليجية بعدما فعلت الحكومة المصرية كل ما بوسعها لجلب الاستثمارات الأجنبية الجديدة لم تأت قط بقيم مقاربة للتوقعات، وهنا بدأت بطرح الشركات المملوكة للدولة أمام استحواذات خليجية طامعة، واحتدت المنافسة بين الصناديق السيادية والحكومات الخليجية للاستحواذ على الاقتصاد والنفوذ لدى مصر السيسي فتوسعت الشركات السعودية منذ مارس/آذار الماضي، فوفقاً لتقرير لموقع الخليج الجديد توسع صندوق الاستثمارات العامة السعودي في شراء حصص بعدة شركات، منها شركة راميدا ومجموعة إي فاينانس وأبو قير للأسمدة ومصر لإنتاج الأسمدة "موبكو" والإسكندرية لتداول الحاويات.
المشروطية الإماراتية والاستحواذ على شركات الجيش
بعدما دخلت كل دول الخليج تقريباً على خط المنافسة على الاستحواذ على الأصول المصرية الاستراتيجية ولم يتبق منها الكثير، فإن الإمارات وباستغلال الحاجة المصرية المفرطة للتمويل الدولي والتي تجلت في محاولة السيسي تحويل الديون الخليجية إلى استثمارات فيما روجت له القنوات حينها بأنه محاولة لإعادة الجدولة، فقد اشترطت الإمارات ضمن معادلة علاقاتها الاستراتيجية مع مصر السيسي الحصول على حصة في شركات الجيش التي سيتم طرحها في البورصة المصرية.
وفي 14 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نشر موقع العربي الجديد تقريراً بعنوان "مصر: محاولات لإقناع المؤسسة العسكرية ببيع بعض الأصول"، يشير التقرير إلى أن "محاولات إقناع الحلفاء الاستراتيجيين للنظام بإيداع أموال في البنك المركزي المصري لتعزيز فرص مصر في الحصول على القرض قوبلت بالرفض من قبل السعودية والإمارات، وطرحت الأخيرة تصوراً مثلت فيه استثمارات تابعة للقوات المسلحة بشكل مباشر، 30%"، مما تستهدف الاستحواذ عليه، ويبدو أن هذا المسار هو الذي انتهى إليه الوضع بحيث تم الاتفاق ضمن آلية تسهيل الصندوق الممدد، بمبلغ محدود لم يتجاوز ثلاثة مليارات دولارات، وفق بيان صندوق النقد حول الاتفاق على مستوى الخبراء بين حكومة السيسي والصندوق في 27 أكتوبر/تشرين الأول.
فمن ناحية لا تضمن الإمارات بقاء السيسي في السلطة، بسبب مخاوف من تبعات الأزمة الاقتصادية على المواطنين، ومن ناحية أخرى تريد عمل حساب للسيناريوهات الأخرى لعدم استقرار النظام واحتمالات أية تغيرات في ظل عدم التفاؤل المحلي والدولي بنتائج الحوار الوطني وتململ قيادات الجيش من خصخصة أملاكه وغضب الشارع من الزيادات الكبيرة لمؤشرات التضخم والدعوات إلى التظاهر في 11 نوفمبر/تشرين الثاني والتي تبدو مرعبة للنظام وإعلامه إلى حد تكرار تحذيره من يناير/كانون الثاني في كل خطاب وتحميلها لكل فشل فيما بعدها.
ويمثل بيان الصندوق بشأن مبلغ القرض الذي يمثل فقط أقل من ثلث ما كانت الحكومة المصرية تأمل الحصول عليه، تتويجاً لهذه المشروطيات الدولية والإقليمية على مصر وهو بمثابة إعلان وصاية من قبل الصندوق والشركاء الإقليميين لمصر السيسي على الاقتصاد المصري والسياسات المتعلقة به.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.