منذ أن بدأ الحوار الوطني أعماله، في 5 يوليو/تموز 2022، والكثير من الناس يوجهون اللوم له لبطئه، خاصةً أن هؤلاء يعلمون جيداً أنه حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول من العام 2022، أي بعد زهاء 4 أشهر من الدعوة إليه، لم يصل حتى اليوم إلى مبتغاه.
وواقع الأمر أن هذا الاتهام يبدو صحيحاً لمن لا يعلم ببواطن الأمور، خاصة تلك التي تتصل بطبيعة العلاقة التاريخية بين المجتمع والدولة في مصر، وهي في معظم الأحوال قائمة على الشك أو على أقل تقدير التوجس والخوف بين الطرفين. فالمجتمع يخشى بطش الدولة، والدولة تخشى على الأقل ضمور شعبية القائمين عليها، أو على الأكثر تكرار نموذج الخروج للشارع كما حدث عام 2011.
من هنا كان العالمون ببواطن الأمور يدركون أنه كان لزاماً التدقيق داخل مائدة الحوار الوطني في كافة الأمور الإجرائية التي سيسير عليها الحوار، من خلال إصدار لوائح تنظيم، وإعداد مدونة سلوك، وتحديد أسماء المشاركين بشكل غير عفوي.
بالطبع كل تلك الخطوات احتاجت إلى وقت كبير، وجلسات طال أمدها إلى أكثر من ثماني ساعات للجلسة الواحدة في بعض الأحيان. على أن هذا لا ينفي بالطبع أن هناك تأخراً بعض الشيء في مجريات الحوار، وآية ذلك مظهران مهمان:
الأول: أن الحوار عقد حتى اليوم 11 جلسة منذ بدايته وحتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بمعدل جلسة واحدة كل 11 يوماً تقريباً، وهو وقت طويل يُعزى في بعض الأحيان للرغبة في تحقيق التوازن بين المعارضة والسلطة في عديد من مكونات الحوار.
الثاني: أن الحوار خُطط له أن ينتهي كُليةً قبل نهاية شهر رمضان، أي قبل 23 مارس/آذار 2023. بمعنى أن الحوار الذي بدأ يوم 5 يوليو/تموز 2022، ومضى عليه حتى نهاية أكتوبر/تشرين الأول الحالي 119 يوماً، والمخصص له 262 يوماً، ضاع نحو 52,6% من وقته في الإجراءات، لو افترضنا أن لجان الحوار ستبدأ عملها فور انتهاء مؤتمر المناخ بشرم الشيخ COP27، أي في 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
بيقى السؤال الآن: كيف يأتي الحوار الوطني بنتائج جيدة؟ بعبارة أخرى، كيف تضمَن الدولة أن يكون هذا الحوار جاداً من خلال نتائج تستطيع أن تُطبق على الأرض، نتائج رَاهَن الكثيرون عليها فقط (بما فيهم الحركة المدنية الديمقراطية)؛ لكون رئيس الدولة عبد الفتاح السيسي هو الضامن لهذا الحوار، والراعي له. واقع الأمر هناك أربعة مؤشرات يمكن من خلالها أن نقول إذا ما توافرت أن هذا الحوار نجح بشكل منقطع النظير، وأنه فاق كل التوقعات.
أولاً: عدم تطابق المخرجات بالضرورة مع دستور البلاد
المعروف أن كافة القوى المشاركة بالحوار قد اتفقت على عدم تعديل الدستور، بمعنى ألا يطالب المتحاورون أو يخططوا للدعوة لتعديل الدستور. فالسلطة ليست لديها رغبة في تقرير أوضاع دستورية جديدة تتصل بها أفضل مما تم إقراره لوضعها في تعديل 23 أبريل/نيسان 2019. والحركة المدنية الديمقراطية خشيت منذ البداية من أن أية محاولة للحوار الوطني لتعديل الدستور، وسط أجواء المجال العام الحالي، ستفضي حتماً في ظل البرلمان بتركيبة العضوية الحالية، إلى تراجع جديد في مجال الحريات، أكثر مما حدث عام 2019.
غير أن الناظر إلى أجندة الحوار وقضاياه سوف يلحظ أن بعض الأمور التي ستُناقش ويُتخذ فيها قرارات لن تكون ذات بال إلَّا لو مسّت الدستور ولو بشكل غير مباشر. بمعنى أن القوانين التي ستعالج الأوضاع التي ستكون على بساط البحث ربما لن تتناغم ولو بشكل غير مباشر مع ما جاء به الدستور.
من هنا فإن انفتاح الأفق بحيث تتم الموافقة على تلك الأوضاع، حتى لو كانت تتباين بعض الشيء مع الدستور (ولا نقول خرق الدستور)، هو أحد المظاهر الدالة على نجاح الحوار. بعبارة أخرى، إذا كانت هناك اليوم أمور كثيرة تخرق فيها السلطة الدستور، وتغبن من خلالها أوضاعاً اجتماعية كثيرة، وقد بُحت الأصوات لمنعها من ذلك دون جدوى، (عدم تخصيص موازنة الدولة نسبة محددة للتعليم والبحث العلمي والصحة من الناتج القومي الإجمالي على سبيل المثال لا الحصر)، ألَا يكون من باب أولى، ومن الأفضل والأجدر والأجدى، أن نغضّ الطرْفَ قليلاً عن أمور تهدف إلى تحسين الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى لو لم تتفق مع نصوص دستورية متكلسة؟.
ثانياً: ضرورة الخوض في التفاصيل
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه "الشيطان يكمن في التفاصيل"، من هنا استخدمت تلك العبارة التي مر عليها اليوم أكثر من قرن من الزمن للدلالة على أمرين متناقضين. الأول، وهو الأقل استخداماً، هو عدم رغبة الفرقاء أو الخصوم في الخوض في التفاصيل، رغبةً في تمرير الاتفاقات والتفاهمات ذات الغلبة والوطأة الشديدة. والثاني، وهو الاستخدام الأرجح، هو رغبة الفرقاء في البحث في كل شاردة وواردة، وعدم ترك أي شيء للمصادفة بين المتحاورين، خشية أن يُفضي التغاضي عن التفاصيل إلى عودة الخلاف، وربما المساهمة في تعميقه، والعودة لنقطة الصفر بين الناس.
من هنا، من المهم أن يتطرَّق الحوار الوطني إلى البحث في كافة الأمور والقضايا، للخوض في التفاصيل، خشية أن يكون ترك التفاصيل مفضياً لما مرد عليه المشرعون ومَن هم مِن خلفهم، إلى تفريغ كافة الأمور المتفق عليها من مضمونها. ولنا هنا في الدستور الحالي دروس وعظة. خذ مثلاً المادة 154، التي أقرت فرض حالة الطوارئ لثلاثة أشهر تُجدد لمرة واحدة فقط، تلك المادة استُخدمت أسوأ استخدام، حيث جددت حالة الطوارئ لسنوات بشكل دستوري، كيف؟ ترك إعلان الحالة بين كل 6 أشهر وأخرى فاصل يومين أو ثلاثة أيام فقط، قبل أن تفرض الحالة من جديد!
بعبارة أخرى، ما هو مراد هو ألا يقول رئيس الدولة تعقيباً على القرارات المتخذة من الحوار الوطني، ما قاله بشأن المؤتمر الاقتصادي الذي اختُتم منذ أربعة أيام، وهو أن "كل المقترحات اللي اتقالت دي أي طالب في كلية السياسة والاقتصاد يتكلم فيها، إنما إزاي تعملوها؟"
ثالثاً: رفع قرار واحد متوافق عليه للرئاسة وليس عدة بدائل
تنص المادة 7 من اللائحة المنظمة لعمل الحوار الوطني على أنه بشأن مخرجات الحوار، فإن مجلس أمناء الحوار "… يصدر قراراته في المسائل الموضوعية والمتعلقة بالحوار الوطني بالتوافق، وفي حالة الخلاف يتم رفع المسألة مع مخرجات الحوار، بحد أقصى ثلاثة آراء لكل مسألة، مصحوبة بالمناقشات التي أثيرت في شأنها…".
من هنا تبدو أهمية الجزء الأول من النص السابق في أن التوافق على قرار ما، بشأن إحدى القضايا، هو من الأهمية بمكان لحسم الخلاف حولها. وعلى العكس من ذلك، فإن عدم التوصل إلى نتيجة حول إحدى القضايا سيُفضي إلى تشرذم وبدائل، تَنتج عن عدم وحدة الرأي، ومن ثم سيُترك الحسم للرئيس، وهو أمر لن يؤدي إلا إلى البدء من المربع الأول مرة أخرى، لأنّ الرئيس ببساطة يعلم البدائل جيداً.
خذ على سبيل المثال طرح مسألة النظام الانتخابي، فإذا توافقت الآراء مثلاً على النظام النسبي بنسبة 100%، أو المزج بين النظام النسبي والأغلبية في صورته الفردية، بنسبة النصف والنصف، أو الثلث والثلثين، فسيقوم الرئيس إلزاماً برفع المسألة عن طريق الحكومة للبرلمان، لسَنّ قانون بذلك. أما إذا كانت الآراء متشرذمة حول ثلاثة مواقف، هي النظام النسبي الخالص، أو المزاوجة بين النظامين النسبي والأغلبية (بشكله الفردي)، أو نظام الأغلبية بشكل نظام الكتلة الحزبية، أو ما يُسمى إعلامياً بالقائمة المطلقة الشائهة، فهنا تبدو كارثة الكوارث؛ لأن الموقف سيكون لصالح القائمة المطلقة، التي استغلتها السلطة لما يشبه تعيين نواب البرلمان أو تزكيتهم!
رابعاً: عدم عبث البرلمان بنتائج الحوار
يرتبط الشرط الحالي بالشرط السابق مباشرة، وهو أنه بعد إقرار الحوار الوطني لموقف في قضية ما، جرى التوافق بشأنه، ورفع لرئيس الدولة كقرار وليس مجرد توصية، ومن ثم يلزم التصديق عليه. بعد ذلك ستكون بعض الأمور تحتاج إلى موافقة البرلمان من خلال سَنها في صورة قوانين.
من هنا فإن السلطة التنفيذية التي تُرسِل من الناحية الدستورية ما تريد سَنّه إلى البرلمان، عليها أن تضغط عبر نفوذها المعتاد، ومن خلال النواب شِبه المعيّنين، وفق نظام القائمة المطلقة الذي استمرأته في الانتخابين الأخيرين، بزعم عدم وجود حل قانوني للكوتات الدستورية، عليها أن تضغط عليهم من باب أولى لتمرير الاستحقاقات المتوافق عليها في الحوار الوطني.
بعبارة أخرى، إن الخشية هنا من أنه بعد أن ينجح الحوار الوطني في التوافق على أمور محددة لا تروق بالضرورة للسلطة التنفيذية، ثم يتسبب الأمر في حرج تلك السلطة لو عدّلت مباشرة فيما هو متفق عليه، أن يتم التذرع بأن البرلمان هو من عدّل، وأن هذا هو الحق الدستوري للبرلمان، رغم أن البرلمان ثبت بالدليل القاطع منذ الانتخابين الأخيرين، بل منذ عقود، عدم خروجه أبداً عمّا وافقت عليه السلطة التنفيذية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.