ثمة مثل شعبي مصري معبّر للغاية يقول "يا دي الشيلة يا دي الحطة، روحنا على جمل وجينا على قطة".. لم أجد أكثر منه ليناسب وصف حالة الانبهار والتوقعات العملاقة التي سبقت عرض مسلسل "الضاحك الباكي" قبل أن تنهار كل التوقعات على عتبة التنفيذ المرعب للمسلسل الذي أصابني بإحراج شديد.. نعم، ليس غضباً، ولا ضحكاً ولا إعجاباً، ولا أي شيء آخر سوى الإحراج مما أرى.. ما هذا؟
لم أكد أبدأ في مشاهدة حلقات المسلسل الذي يجسد قصة حياة الراحل نجيب الريحاني حتى وجدتني أردد طوال الوقت "ما هذا يا سيدة فردوس عبد الحميد؟ ما هذا حقاً بحق ماسبيرو والمسرح القومي؟ ما هذا بحق ليلة القبض على فاطمة وعصفور النار؟ ما هذا يا سيدتي بحق ليالي الحلمية، وأنا وأنت وبابا في المشمش، و زيزينيا! كيف جانبك الصواب إلى هذا الحد يا عزيزتي؟!
كارثة التحول من "أم الرفاعي" إلى "أم نجيب"
أذكر ابتسامة الإعجاب والسعادة التي شعرت بها حين رأيتها تعود بصحبة محمد رمضان في مسلسله الأشهر "الأسطورة" في دور والدته "أم الرفاعي"، وهو الدور الذي رفضته الفنانة سميرة عبد العزيز لتقبل به فردوس عبد الحميد، وقد تلقت وقتها الكثير من التأنيب والانتقادات عن كيف تظهر بصحبة محمد رمضان، وتصير والدة "مجرد بلطجي،" هي التي تتشبع صورتها الذهنية بالوقار وحسن الاختيار، لكن فردوس التي كانت قد انقطعت عن العمل منذ العام 2013 عقب مسلسل ربيع الغضب من إخراج زوجها، طلبت وقتها -عام 2016- أن ينتظر الجميع حتى نهاية المسلسل، وأن يحاسبها الناس عن دورها في المسلسل، وليس عن أعمال محمد رمضان، وقد احترمت منها ذلك كثيراً، فضلاً عن تقديري لفكرة التواجد والإصرار عليه.
أذكر كيف كنت أتوقف أمام مشاهدها التي أضافت ثقلاً للمسلسل، رغم كمّ الدراما، فإنها من فرط جودة أدائها، وصدق تعبيراتها، وقوة حضورها، صارت مادة خصبة لـ"الميمز" على صفحات التواصل الاجتماعي، وأضافت لأدوار الأمومة أبعاداً جديدة، ربما لم تكن موجودة من قبل، ربما لهذا نشرت مجلة الجرس اللبنانية تساؤلاً مفاده "فردوس عبد الحميد دون زوجها تتفوق؟" حيث بدا أن الإجابة عن السؤال هي "نعم".
توقفت طويلاً عند ظهورها لاحقاً في مسلسل "الوصية" في مشهد واحد فقط، صامت، لم تنطق فيه حرفاً، لكنه كان مؤثراً بما يكفي، قيل إنها ظهرت مجاملة لابنها مخرج العمل خالد الحلفاوي، لكنني لم أرَ في ظهورها سوى تعزيز للطريق الجديد الذي قررت أن تسلكه؛ وهو ما تأكد لي في ظهورها لاحقاً في مسلسل "مكتوب عليا"، حيث قدمت دور الباتعة، السيدة الجادة جداً، ولكن في سياق كوميدي لم تعتد عليه، البعض اعتبر ذلك حطاً من قدرها، ولكنني رأيته إعادة صياغة لصورة اعتادت تكرارها، بينما لا تزال تملك الكثير لتقدمه، دون تعالٍ أو شروط مسبقة، بشأن مساحة الدور، أو موضع الاسم على التتر، فقط أداء جيد وظهور مميز وعمل متواصل.
من أم الرفاعي للبتعة كان الأداء ممتازاً، حتى جاء دورها لتقدم "أم نجيب الريحاني" في مسلسل "الضاحك الباكي" لتبدأ المأساة، أين فردوس عبد الحميد؟ من تلك السيدة المنعدمة التعبير؟ كيف انتقلت الممثلة القديرة التي تحتفظ بقصة شعرها منذ السبعينيات، وبوقار ملابسها، وأدائها المحافظ إلى مرحلة الفيلر والبوتوكس بعد السبعين؟!
لماذا شعر الجميع بالصدمة ذاتها؟
نقد لاذع جداً تعرّضت له فردوس عبد الحميد وزوجها محمد فاضل، بمجرد عرض أولى حلقات "الضاحك الباكي"، لم يتم توجيه اللوم لها وحدها، حيث الكثير من السقطات الفنية، بداية من ظهورها في سن الـ75 –والعمر هنا ليس عيباً- وهي تحمل طفلاً رضيعاً يُفترض أنها والدته، مروا بجمود ملامحها التي تبدلت كلياً عقب التغييرات التي أجرتها على وجهها، بحيث لم تظهر أصغر –كما كان مستهدفاً- ولكن كشخص مصاب بشلل في القدرة على التعبير، بوجه دون ملامح واصلت تقديم الدور بذات الرتم منذ لحظة الظهور، وحتى صارت امرأة عجوزاً يفترض أن نجيب الريحاني في شبابه، ابن لها، ليس ثمة شعرة بيضاء، ولا تغيير يُذكر في أي شيء، أين فردوس عبد الحميد؟من هذه السيدة الجامدة على الشاشة؟!
الصدمة كان منبعها أيضاً أن قامة بحجم نجيب الريحاني، يخرج السيناريو الخاص بحياته بتلك الطريقة التي قدمها السيناريست محمد الغيطي، والذي حفلت كتابته بجملة من الأخطاء الفادحة لكن الغيطي اعتبر النقد الموجّه للمسلسل مجرد هجوم غير مبرر عليه وبقية أفراد العمل، وأنها محاولة من "عيال الفيس بوك" لوصم النجاح بالفشل، أما المخرج محمد فاضل الذي راح الجمهور يعدد له الأخطاء الإخراجية واحداً تلو الآخر حول أساسيات في الإخراج كالراكور والقطع بين المشاهد وغيرها، فلم يختلف رد فعله عن بقية الفريق.
وما بين فريق يهاجم ضم قطاع كبير من رواد مواقع التواصل، فضلاً عن آخرين مثل الإذاعي عمر بطيشة، والذي اعتبر العمل استسهالاً، ونقاد مثل طارق الشناوي ورامي المتولي الأمر الذي أثار حولها موجة تعاطف واسعة ودعم، فمثلاً دعمها عمرو محمود ياسين، نجل النجم الراحل محمود ياسين، مؤكداً أن الفن وجهات نظر، وأن النقد له أصول، كذلك والدته شهيرة وجّهت لها رسالة دعم مؤثرة قالت فيها للنجمة وزوجها: "اصبروا ياما اتعرضنا لكده"، ومثلها كثيرون في المجال الفني، أما صاحبة الشأن فقد اعتبرت ما قيل بحقها وزوجها ومؤلف العمل والممثلين مجرد "تنمّر وتربّص"، حتى آراء طارق الشناوي، والتي جاءت هادئة وأكثر لطفاً من غيرها، اعتبرتها مجرد أسطوانة يكررها الرجل منذ 10 سنوات!
لماذا يا سيدتي؟
في الوقت الذي يتم فيه توجيه اللوم بالكامل إلى فريق العمل، أرى أن الجزء الأكبر من المسؤولية يقع على عاتق فردوس نفسها، المسألة بالكامل تبدو منذ لحظة البداية عامرة بالأخطاء، كيف لامراة وقفت على المسرح القومي في عز مجده، أن تقبل؟ ذلك الوجه المميز في أعمال مثل المسلسل الشهير حكايات ميزو، بصحبة سمير غانم، وليالي الحلمية، كيف وافقت صاحبته على تبديله بهذه القسوة؟ كيف وافقت أن تكون شاهدة على كل التفاصيل التي رأيناها كمشاهدين بداية من اختيار الممثلين وتسكين الأدوار، مروراً بالتفاصيل الصغيرة الخاصة بالمسلسل وتصمت، بل تواصل العمل وتدافع أيضاً عنه؟!
في مقال قديم له على موقع "بص وطل"، كتب الكاتب المصري أحمد خالد توفيق مقالاً بعنوان "اعترافاتي" جاء فيه "الفنانة فردوس عبد الحميد ممثلة قديرة بلا شك؛ لكني لم أستطع قط ابتلاع الطريقة التي يظهرونها بها في المسلسلات كـ"جان دارك".. قيمة غير بشرية تطلّ على الخطاة وتصدر أحكامها، تواجه الكاميرا بعينين ثابتتين، ولا تكفّ عن إلقاء القيم والمواعظ طيلة الوقت.. لو كنت تذكر مسلسلات "صيام صيام" أو "أنا وإنت وبابا"؛ فأنت تعرف ما أعنيه، دعك من أن صوتها الغنائي سيئ في رأيي الخاص؛ بينما كانت فعلاً في أفضل حالاتها في دور بسيط مثل "نفيسة" الوريثة المثقفة الساذجة التي لا تعرف شيئاً عن العالم.. هكذا عرفناها على الشاشة أول مرة؛ لكنك لا تجسر على الاعتراف بهذا؛ لأن المثقفين ينظرون لك في ذهول: هل حقاً تجرؤ على ألا تحبها؟".
لعل تلك هي النقطة التي انطلق منها النقد بالكامل، هذه امرأة تعلم ما يجب عمله باستمرار، امرأة قوية، يقطر فمها حكمة، ويحمل عقلها ما يكفي من الرجاحة والقوة، فهل من الحكمة أن نراها في عمل مماثل؟!
لا ينقص فردوس عبد الحميد العناصر اللازمة للقيام بأعمال السير الذاتية، فقد سبق لها بمهارة تقديم شخصية أم كلثوم بجودة تخطت –برأيي- ما قامت به صابرين في المسلسل، لم أشعر لحظة أنني أمام فردوس عبد الحميد، حتى أنني صرت لاحقاً أربط بين الاثنين، أم كلثوم وفردوس عبد الحميد في عقلي.
يأتي العتاب بدرجة المحبة، وتكون الصدمة بقدر المكانة، لذا، ربما النقد اللاذع الذي يوجّه لفردوس عبد الحميد الآن سببه الثقة العارمة والمكانة العظيمة لتلك السيدة، هي ذاتها التي انتقدت قبل عام الدراما المصرية، واعتبرت أن سبب تراجع الأداء –برأيها- أن السيستم واقع، الآن حين أخطأت الاختيار-وهو أمر وارد- اعتبرت أن من يهاجمونها يرغبون فقط في "تصدّر الترند"!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال مقالاتكم عبر هذا البريد الإلكتروني: opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.