بعد توظيف السلطات المصرية للمؤتمر الاقتصادي الذي عقدته مؤخراً بادعاء مطالبته، حسب التوصيات التي أعلنتها بسرعة عقد الاتفاق الجديد مع صندوق النقد الدولي، أعلنت يوم الخميس خفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، ورفع معدل الفائدة بنسبة 2%.
والسماح للبنوك بالقيام بعمليات الصرف الآجلة لعملائها من الشركات لتغطية مراكزهم التجارية، والسماح للبنوك أيضاً بالقيام بعمليات مبادلة العملات – سواء – لعملائها من الشركات، ورفع قيمة الاستثناء من الواردات بنظام الاعتمادات المستندية، إلى نصف مليون دولار مقابل خمسة آلاف دولار قبل ذلك، كما رفعت حدود الإيداع والسحب من ماكينات الصرف الآلي.
وارتبطت تلك القرارات بالإعلان اليوم عن اتفاق مع صندوق النقد الدولي على مستوى الخبراء، للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وإمكانية حصول مصر على قرض آخر بقيمة 1 مليار دولار من صندوق المرونة والاستدامة الذي تم إنشاؤه مؤخراً، بالإضافة إلى حصول مصر على تمويل بقيمة 5 مليارات دولار من مؤسسات وجهات إقليمية ودولية.
وبقرار التعويم الجديد الذي بلغت نسبته اليوم حوالي 16%، تصل نسبة انخفاض الجنيه المصري أمام الدولار خلال العام الحالي 46%، حيث جرى خفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار في مارس/آذار الماضي بنسبة 16%، واستمر الانخفاض التدريجي خلال الشهور التالية بحوالي 8%، حتى الخفض الذي جرى اليوم.
مع الأخذ فى الاعتبار أن نسبة الخفض التي جرت اليوم قابلة للزيادة خلال الأيام المقبلة عندما تعود البنوك للعمل، ففي تعويم الثالث من نوفمبر/تشرين ثان 2016 بلغ سعر صرف الدولار باليوم الأول للتعويم 14.3 جنيه، وكان يوم خميس أيضاً والذي يمثل اليوم الأخير لتعاملات الأسبوع بالبنوك.
وباليوم التالي للعمل بالبنوك وهو الأحد زاد إلى السعر 15.94 جنيه، وباليوم الثالث زاد إلى 16.84 جنيه، وباليوم الرابع زاد إلى 17.63 جنيه، واستمر الصعود حتى بلغ 19.36 جنيه بالعشرين من ديسمبر/كانون الأول؛ أي بعد أقل من شهرين من التعويم.
تأثير سلبي مزدوج على المواطن
ويظل السؤال حول تأثير تلك القرارات على المواطن المصري؟ حيث يظل الأثر الأكبر هو الأثر على الأسعار بالأسواق، في ضوء استيراد مصر حوالي 60% من الغذاء في مصر، وكذلك كون الصناعة المصرية تعتمد على نسبة 61% من مكوناتها من خلال الاستيراد، حسب بيانات النصف الأول من العام الحالي، مما يعني رفع الأسعار المحلية، والذي سيدعمه رفع نسبة الفائدة 2% مما يزيد من تكلفة التمويل أيضاً لدى الشركات.
ومع ارتفاع الأسعار يقوم الحرفيون ومقدمو الخدمات من أطباء ومحامين ومهندسين وغيرهم برفع أسعار خدماتهم، للحصول على دخل يكفل لهم الحصول على نفس سلة الغذاء والخدمات التي كانوا يحصلون عليها قبل التعويم، مما يزيد من نطاق ارتفاع أسعار السلع والخدمات حتى للسلع غير المستوردة.
الأثر الثاني على المواطن هو تأخر مشروعات البنية الأساسية التي تقوم بها الحكومة بأنحاء البلاد، نتيجة قيام وزارة المالية بخفض مخصصات الاستثمارات الحكومية، فزيادة نسبة الفائدة بمعدل 1% تزيد من تكلفة خدمة الدين الحكومي بالموازنة بنحو 28 مليار جنيه حسب بيانات وزارة المالية، وبالتالي فإن زيادة الفائدة 2% معناها إضافة 56 مليار جنيه إلى مخصصات الفائدة بالموازنة، البالغة قبل هذا الرفع للفائدة 690 مليار جنيه.
ولأن موازنة العام المالي الحالي 2022/2023 توجه نسبة 54% من الإنفاق بها إلى خدمة الدين الحكومي من فوائد وأقساط، فإن رفع الفائدة سيزيد من ذلك وهو ما يأتي على حساب خفض نفقات الدعم والاستثمارات، من مدارس ومستشفيات وطرق وبنية أساسية، وشراء السلع والخدمات التي تتجه للجهات الحكومية، مثل المستلزمات الطبية بالمستشفيات الحكومية والمستلزمات التعليمية بالمدارس الحكومية وحتى مدى توافر ورق الطباعة بالجهات الحكومية لأداء الخدمات وغير ذلك.
خفض قادم لدعم المحروقات
وإذا كانت الحكومة قد أجلت خفض دعم المحروقات، الذي كان مقرراً ببداية الشهر الحالي إلى بداية العام الجديد كما قالت، فربما تقوم برفع تلك الأسعار بعد انتهاء مؤتمر المناخ العالمي بشرم الشيخ في 18 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وكذلك بعد مرور توقيت الدعوة إلى التظاهر المقرر له يوم 11 نوفمبر/تشرين الثاني، كما أجلت زيادة أسعار الكهرباء إلى يونيو/حزيران من العام القادم، لتجزئة تنفيذ طلبات الصندوق بخفض الدعم.
وربما تعوض ذلك من خلال وقف المبادرات المصرفية التي تقوم على أسعار فائدة لبعض الأنشطة أقل من أسعار الفائدة بالسوق، أو فرض المزيد من الرسوم التي لم يتوقف فرضها منذ الاتفاق مع الصندوق عام 2016 وحتى الآن، سواء من جانب الوزارات والهيئات الحكومية أو المحليات، حتى كانت مثار شكوى رجال الأعمال خلال جلسات المؤتمر الاقتصادى الأخير لما تسببه من إرباك لحسابات الشركات.
ولعل تذكر ما حدث من أثر على معدل التضخم الرسمي بعد خفض قيمة الجنيه ورفع الفائدة عام 2016، يفيد في ذلك، رغم تحفظ الخبراء على مصداقية معدل التضخم الرسمي الصادر عن جهاز الإحصاء، باعتباره لا يعبر عن حقيقة تغيرات الأسعار ويقلل من حقيقتها، حيث زادت نسبة التضخم من نسبة 14% في أكتوبر/تشرين الأول 2016 أي قبل شهر التعويم، خلال الشهور التالية حتى بلغ 34% بشهر يوليو/تموز 2017، وظل أعلى من نسبة 20% طوال شهور عام 2017، كما ظلت نسبة التضخم الرسمية مكونة من رقمين طوال شهور عام 2018، ولم تنخفض إلى رقم واحد إلا فى يونيو/حزيران 2019، أي بعد حوالي عامين ونصف العام من التعويم.
ويظل السؤال حول السوق الموازية أو كما يسمونها السوق السوداء للدولار، هل تنتهي الآن مع التعويم الجديد؟ والإجابة أنها ستظل موجودة لأنها تلبي طلباً حقيقياً بالسوق، سواء للاحتياجات المعتادة أو للمضاربة التي حققت أرباحاً خلال العام الحالي، أو للاحتفاظ والتحوط من نقص العملة مستقبلاً، أو لتمويل الأنشطة غير المشروعة من تجارة المخدرات والسلاح والتهريب ونحو ذلك.
السوق السوداء مستمرة لعدة شهور
ولن تنتهي السوق السوداء حتى تستطيع البنوك تلبية احتياجات المستوردين من العملات الأجنبية، وهو أمر سيتطلب عدة شهور بعد الاتفاق مع الصندوق، في ظل كبر قيمة الفجوة الدولارية الحالية، والعجز الدولاري الموجود بالجهاز المصرفي والذي بلغ 20 مليار دولار، منها 8 مليارات دولار بالبنك المركزي و12 مليار دولار بالبنوك التجارية، حتى بيانات أغسطس/آب الماضي، والذي نتوقع استمرار وجوده حتى الآن.
يضاف لذلك أن قيمة القرض الجديد البالغة 3 مليارات دولار والتي لم يتحدد بعد موعد الحصول عليها، نظراً لعدم موافقة مجلس مديري الصندوق بعد على القرض والاتفاق، والمقرر له ديسمبر/كانون الأول القادم، وحتى بعد الحصول على قرض الصندوق، وعلى القرض البالغ 1 مليار دولار من صندوق المرونة والاستدامة التابع لصندوق النقد الدولي.
وكذلك على الخمسة مليارات من الدولارات من الدول والمؤسسات الإقليمية والدولية، فإن مجموع لكل ذلك يصل إلى 9 مليارات دولار، بينما تتراوح الفجوة الدولارية بمصر خلال الاثني عشر شهر المقبلة ما بين 40 إلى 45 مليار دولار، والتي وعد محافظ البنك المركزي المصري بعلاجها خلال السنوات الأربع المقبلة، مع الأخذ بالاعتبار أن البنوك المصرية لم تتمكن من تهدئة نشاط السوق السوداء مع تعويم 2016 إلا بعد حدوثه بستة أشهر.
فى حين يزداد الموقف مع التعويم الجديد صعوبة، نظراً لتغير الظروف الدولية التي كانت سائدة عام 2016، عما هي الآن من صعوبات للاقتراض الدولي وارتفاع نسبة الفائدة دولياً، وتراجع معدلات النمو بالعالم بالعام المقبل، والتخوفات من حدوث ركود بعدد من الدول الكبرى، واستمرار الحرب الروسية الأوكرانية وغير ذلك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.